أصدرت وزارة التعليم لائحة توظيف جديدة للمعلمين؛ تقطع الطريق على معلمين كانوا يخرجون من الباب ويعودون من النافذة. فمنذ عام 1979، مر أكثر من نصف قرن انقلبت ثقافة المجتمع السعودي رأسا على عقب، ما كان لأحد أن يصدق بعد لحظات التنوير والتطوير ، أن تنقلب إلى ضدها. سأكتفي بأمثلة قليلة لهذا الانقلاب؛ فبدلا من طه حسين حل حسن البنا، ومن أحمد لطفي السيد حل سيد قطب،، ومن أم كلثوم حل عبدالحميد كشك، ومن محمد عبده حل سفر الحوالي، ومن المؤسسة العلمية المؤسسة الدينية، ومن القسم العلمي القسم الشرعي، ومن كتاب «خواطر مصرحة» حل كتاب «الحداثة في ميزان الإسلام».

لكن لماذا نصنف هؤلاء في جانب وأولئك في جانب آخر؟ ألا ينتج هؤلاء وأولئك ثقافة واحدة؟

في الواقع هذا ليس تصنيفا بقدر ما هو وصف لثقافتين إحداهما دنيوية والأخرى دينية، ولمفهومين للتاريخ، أحدهما يرى أن التاريخ بشري والآخر يرى أنه إلهي. إنه وصف لتغيرات في منحى المجتمع السعودي بمعنى تغيّر ذهنيّته، وطريقة تفكيره.


من أين وإلى أين هذا المنحى في طريقة تفكير المجتمع السعودي؟ يمكن لهذه الحكاية الشخصية أن توضح بالقدر الكافي أين كان المجتمع السعودي وأين أصبح؟

في عام 1976 كنت طالبا بالصف السادس الابتدائي. ذات يوم وجدنا ثعبانا في الفصل. بحث معلم يدعى محمود (فلسطيني) عن عصا برأس ذي شعبتين أمسك بها الثعبان، ووضع في فمه صندل إصبع (زنوبة)، ثم نزعها وترك الثعبان. ثم طلب منا أن نلمسه، وأن نتأمل فيه، ثم استعان به معلم التربية الفنية (مصري) لكي نرسمه مشاهدة.

مرت سنوات طويلة حتى إنني نسيت الحادثة، إلى أن زرت مدرسة مسائية للإشراف عليها في جدة عام 2009.

في ذلك اليوم حدثني المعلمون عن رؤية الطلاب لثعبان يدخل إلى المدرسة بعد مغادرة طلاب الفترة الصباحية.

تناقشت معهم في أنها فرصة لكي يبنوا فرقة عمل من الطلاب للبحث عن الثعبان، وتنمية حب الاستطلاع، والتعاون للوصول إلى هدف جماعي بما فيها من تقسيم المهام..إلخ. لكن المعلمين أبدوا شكهم في أن يكون اقتراحي مثمرا، وأنهم تحدثوا مع أحد الشيوخ لكي يرقي المدرسة، فلا يمكن أن يكون الثعبان إلا جنيا.

هل أناقشهم بأن تفكيرهم خرافي وليس علميا؟ من المؤسف أنني لم أفعل ذلك لأنهم سيتخذون مني موقفا أيديولوجيا، أو هكذا فكرت فغادرت المدرسة قبل أن يأتي الشيخ.

ما الذي يمكن أن نفهمه من هذه التجربة الشخصية؟

المدرسة تحولت من مؤسسة تنمي التفكير العلمي إلى مؤسسة تنمي التفكير الخرافي. هذا ليس حكما إنما هو وصف للتغير الذي حدث في تفكير المؤسسة التعليمية، وبالتالي مؤشر على تغير تفكير المجتمع الذي نخدمه.

وإذا ما أردت أن أواصل الحديث عن التغير في تفكير المدرسة باعتبار تغيرها مؤشرا على ما يريد المجتمع أن يحققه منها، فإنني أتذكر معلمين لم يكونوا يعدون دروسهم إعدادا ذهنيا، وحين ناقشتهم في أن ذلك مهم لعملهم معلمين لعلاقته بالأهداف التي يريدون تحقيقها، والأساليب والإجراءات المناسبة لتحقيقها، والتقويم فيما إذا تحققت الأهداف أم لم تحقق. أجابوني بأن «العلم في الرأس وليس في القسطاس».

ماذا يعني هذا؟ التفكير المسبق وفق حكم وأمثال، وتحكم الماضي في الحاضر، بل وفي المستقبل، وسلطة القديم حين قالوا لي صراحة: إن أحدا من الصحابة لم يكن يعد دروسه، ولا من الأئمة الذين ملؤوا الدنيا علما. ومن المؤسف أنني أيضا أنسحب من النقاش، فالتهمة جاهزة بأنني عدو للصحابة وأئمة العلم أو على هذا ما فكرت فيه.

قد لا يصدق أحد ما فعله أحد المعلمين باعتبار ما فعله وسيلة تعليمية. حدث هذا في مدرسة بخميس مشيط، فقد كفن معلم أحد الطلاب وحمله الطلاب على النعش ليذكرهم بالموت، والعمل من أجله.

وكما هو واضح فإن ثقافة معينة حلت محل ثقافة أخرى، وفي جزء من هذه الثقافة البديلة ثقافة الترهيب مقابل ثقافة الترغيب، وثقافة الموت في مقابل ثقافة الحياة.