«كاتب أحمق يقول عني: إذا كنتَ تريد أن تلتزم، فماذا تنتظر، كي تَنْظمَّ إلى الحزبِ الشيوعي»، والأخرى لسيوران وهي: «الشارح أفطنُ وأَنْبَه من النصِّ المشروح، وهذا ما يمتاز به القاتلُ على الضحية».
فأما مقولة سارتر فتستحضر الالتزام الأدبي متمثلًا في نُقّاد رابطةِ الأدبِ الإسلامي، إذ لنا أن نفتعل قولًا مُشابهًا لقول سارتر وهو «كاتب أحمق يقول: إذا كنتَ تريد أن تلتزم، فماذا تنتظر؛ كي تكون مسلمًا وحسب!». وأما مقولة سيوران فتستحضر الالتزام بالقراءةِ الجديدةِ للنصِّ الديني.
مَا يجمع المسارين هو ما طرأ على تاريخ المسلمين بين مرحلتين، مرحلة كان فيها النصُّ الديني مطواعًا للواقع، ومرحلة أصبح النص الديني فيها عبئا على الواقع، لهذا لم يَحْتَج المسلمون لمصطلح الأدب الإسلامي في مرحلته الأولى، أو لمصطلح تجديد الخطاب الديني، بينما في المرحلة الثانية استحضرا مفهوم النصِّ المجرد كما هو في النظريات النقدية فغضّا الطرفَ عن تورطِهما في الفصلِ بين (النصِّ) وسلطته الملازمة له وهي لفظ (الديني) إذ يستحضران نقاشهما لمفهوم الالتزام بالنصِّ من مفاهيم غريبة على وجودية الإنسان بالمنظار العربي/الإسلامي، وهما - في الآن نفسه - يُبرئان هذا النصّ من السلطة في أصلِ منشئه.
قد تكون إشكاليةُ الأدبِ الإسلامي واضحة، ولا مزيد للحديثِ حولها، لكنَّ الجديد في نقدِ نُقّادِ هذا الالتزام، أي أولئك الذين يرفضون الالتزامَ بالتزامٍ مضادّ، قوامه الغفلة عن تطور التاريخ في جدليته بين النصِّ والواقع، وأما الالتزام الآخر فهو نمطٌ تأسَّسَ في فضاءِ التحولات الغربية، وهو الوعي بمرحلةِ مابعد السرديات الكبرى، ما عدا الدين، فإنه تُستعاد نصوصه كما لو كانَ نسقيًا ولكن بصورةٍ مُضادّة لأصحاب الخطاب السلفي، ويظهر هذا عند قُراء الخطاب الديني بصورتِه المخفية، وأعني أنَّ ثمةَ وعيًا يُخبرهم أنهم في مرحلة ما بعد الأديان بصورةٍ ما، لكنَّهم يغضّون طرفَهم نقديًا، ربما لغاياتٍ نفسية وحاجات واقعية مادية، أو غير ذلك.
ففي سياقِ حديثِه عن النصِ الديني، يقول نصر أبو زيد «إنَّ المدافعين عن سلطةِ النصوص يسألون سؤالا (ماكرًا خبيثا)، وهو أليس هناك من سبيل لإبقاء العقل إلا برفض النصوص؟ لأنه لا أحدَ يرفض النصوص، بل الرفض موجه إلى سلطةِ النصوص» وهنا يكون جوابه- إذا استُخدِمت ألفاظه ذاتها- ماكرًا أيضا، لأنه أولًا: استخدم (لا) التي تدل على نفي وجود أي إنسان يرفض النصوص الدينية لذاتها. وثانيًا - وهو الأهم لأنه يُوضِّح وعيَه بأنه في مرحلة المابعد- أنه أعطى النصَّ الديني مفهومَ النصِّ المجرد الذي لا يملك إلا السلطة المعرفية المُمارسة في المجال المعرفي وحسب، وهذه علامة على ازدواجية الطرح بين تاريخين بينهما قطيعة. وثالثًا: أنه بطريقة نقديّة جداليّة يريد أن يُقنِع المتلقي بفصلِ النصِّ القرآني والنبوي عن سلطتِه التي فرضتها حياةُ الإسلام نفسها من مصادرها المتعددة والمختلفة والمتنوعة المتسقة مع ما قبل الحداثة. لهذا فإنه حين ذكر مقولة عليّ للخوارج: «القرآن بين دفتي المصحف، لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال» أغفل سياقا يتمم الصورة الكاملة، وهو أنَّ عليّا قال قبلها: «إنما حكّمنا القرآن»، وقال لابن عباس: «إن حاجوك بالقرآن فحاجهم بالسنة»، والسنة هنا نصٌّ، مما يُبيّن أنَّ ثمةَ دلالة ثابتة مُضَمّنة في مجموعِ القرآنِ والسنةِ، يعرفونها فيما بينهم، وهذا مُتسق مع واقعيةِ الإسلام في تاريخه، وهو ما يمكن أن يُسَمّى (جسد القرآن والسنة). وازدواجية هؤلاء تظهر في اضطرابهم بين لحظة متجسدة للقرآن، ولحظات تفترض التعاطي مع محتويات الوعي الديني البشري لا النص نفسه وتجسداته سواء في أفق الأقدمين أو أُفقهم هم. لهذا ليس غريبًا أن نجد الغذامي يضع تغريدةً عبارة عن آيةٍ قرآنية وهي «نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم»، فعلّق أحدهم بوضع الآية التالية لها وهي «وأنَّ عذابي هو العذاب الأليم».
إنَّ اقتباسات كهذه تَشرحُ المأزق، لأنَّ الاقتباسَ من القرآن يختلف عن غيره من الكتب، ما دام صاحب التغريدة لا يعده من مرحلة الما بعد، بوصفه نصًا سماويا متعاليا على التاريخ، ومن ثمَّ فيفترض أنَّ كلُّ القرآن واحد لديه، لا يُتخيّر منه -بحسب الوعي النفسي- كما تُتخيَّر الروايات والأشعار، لكنَّ هذا الناقد يعي أنه في مرحلة الما بعد، ويريد أن يُطبّق الما بعد على النصوص التي تمثِّل حقبةَ الما قبل، بوصفها أخذت سلطتها من قِبل تطبيقاتها المتوالية والمتتابعة، لا من ذاتها التي هي عين تاريخ النبي نفسه وأصحابه الملازمين له في تطبيقاتهم بجميع مصادر التاريخ الإسلامي المتعدد والمتضاد أيضًا، لكن شرطها أنها في مرحلةٍ لم تخضع لوعي التاريخ الغربي الحديث، وهذا عين مكر نصر أبوزيد، الذي هو معبر عن مأزقهم في مرحلة مابعد الأديان.
ولهذا رأينا تأليفَ الغذامي لكتابيْن ينحازان لمفهومِ الاستدلال القلبي، وهما: «العقل المؤمن/العقل الملحد» و«القلب المؤمن، وهل يلحد القلب؟!»، وقد عَدَّ هذين الكتابين أهم كتابين في حياته، لا لعمق مضامينهما، بل لأنهما نتاج صراع فكري في داخله امتدَّ من أيامِ الدراسةِ في بريطانيا.
والغذَّامي بانحيازه هذا متأثر بروسو حين جمع بين العقل والوجدان للوصول إلى دين الفطرة، ومن هنا أسَّس الغذامي طريقًا للتفكر في القلبِ عبر علاقة الناس بقصص حياتِهم، العصيّةِ على النسيان، وهذا يُعيدنا لإدراكه بالمأزقِ النصّي وعلاقته بتاريخ متغيّر كبير وجارف، إلا أنه- في الآن نفسه- يستعيد النصَّ القرآني كمفهوم أكبر ورمزية قلبية، لغرض نفسي يتسق مع القلب المؤمن وتجلياته من جهةٍ تغض الطرفَ عن مفهومِ (السعة) الذي ذكره ابن حنبل واستشهد به الغذامي في كتابه الفقيه الفضائي. وغَضُّ الطرف -هنا- لأنَّ السعةَ القديمة ستتحول إلى ضيقٍ حديثٍ، حيث الوعي بالقطيعةِ المعرفية في مرحلتنا التاريخية، ولكن القلب ينحاز لذاكرة خاصّة تُبقي صورة الأب معلّقة على جدرانِ البيت.