وينفي هؤلاء المؤرخون ارتباط ذلك النشيد بقدوم الرسول من مكة، ويشيرون إلى أنه قيل في وقت ومناسبة أخرى، وأن موقع «ثنيات الوداع» ليس هو الموقع المعروف حاليًا.
موقع الثنيات
يرى الدكتور تنيضب الفايدي، الكاتب والمؤرخ والجغرافي، أن موقع ثنيات الوداع ليس هو المعروف حاليًا، والذي يدأب المتحدثون والمصورون بكاميراتهم على القدوم إليه إلى جنوب مسجد قباء، ويقول «هكذا يكتب التاريخ الخطأ، ويتم تداوله بين الأجيال، فكلما بث نشيد طلع البدر علينا يأتي المتحدثون والمصورون بكاميراتهم إلى جنوب مسجد قباء، بينما ثنيات الوداع في جهة مغايرة، وقد أثبتها العلماء طبقًا لأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما، والتطبيق العملي وحددتها الأجيال السابقة تمامًا، والمشكلة الكبرى أن هذا التحديد الخاطئ يتكرر على مسمع من العلماء وأصحاب الحديث دون أن يبادروا إلى تصويبه، وكأن هذا الخطأ لا يعنيهم».
ويكمل، «ثنيات الوداع جزء من جبل سلع، حيث تتصل بجبل سلع عدة جبيلات، ففي الجنوب الشرقي جبل سليع، وفي الشرق يتصل به جبيل يشكل مع جزء من سلع ثنية الوداع (القرين الفوقاني)، ثم جبل في الشمال الشرقي يسمى جبل الراية جبل ذباب (أو القرين التحتاني)، كما يتخلل جبل سلع عدة شعاب وفي جميع اتجاهاته، ففي الجنوب شعب يسمى قديمًا مِرْبد النعم يفيض على منهل الزكي، وفي الشرق شعب أيضًا تمر به ثنية الوداع، وفي الشمال الغربي يوجد شعب أو تجويف به مجموعة من المساجد أشهرها مسجد الفتح، ويطلق عليها في الزمن المتأخر المساجد السبعة.
وفي الجنوب الغربي تجويف آخر أو الشعب الذي يسمى شعب بني حرام، وهم فرع من قبيلة بني سلمة، ولهم مسجد هناك يسمى مسجد بني حرام، وقد تم توثيقها بالأحاديث الصحيحة والواقع العملي والأدلة الميدانية، حيث لا توجد اجتهادات أخرى لتغيير موقعها أو الشك في ذلك».
حسم نهائي
يؤكد الدكتور الفايدي أنه ليس هناك ثنية نهائيًا في جنوب المدينة المنورة، وذلك حسب الواقع الفعلي، وحسب ما ذكر المؤرخون، ويقول «دخول المدينة كان من الشمال دائمًا؛ لأن كل الجهات الأخرى تغطيها الحرار، لذلك كان الخندق من الشمال، وهناك مدخل في الحرة الغربية (حرة الوبرة) يسمى المدرّج، وينزل على الوادي المبارك.. والوداع اسمٌ من التوديع، وثنيات الوداع ثنيات متتالية مشرفةٌ على المدينة، تقع شمال المدينة (القديمة) في أول الطريق المحاذي لجبل سلع من الشرق».
وخطَّأ الفايدي ربط بعض المؤرخين هذا النشيد بمقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى يثرب مهاجرًا، استنادًا لعدة أمور، وقال «أولاً: إن المعلوم جغرافيًا أن قباء تقع جنوب المدينة، وثنية الوداع تقع عند مدخل المدينة من جهتها الشمالية، فكيف استقبل وِلْدان المدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند ثنية الوداع، وهو لم يدخل المدينة من جهتها التي تقع فيها ثنية الوداع، لذا يقول ابن القيم -رحمه الله: وبعض الرواة وهم في هذا، ويقول: إنما كان ذلك عند مقدمه المدينة من مكة، وهو وهمٌ ظاهر؛ لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام».
لا نشيد عند الاستقبال
يواصل الفايدي متطرقًا إلى أنه لم يكن هناك نشيد عند استقبال الرسول -صلى الله عليه سلم- حين قدومه إلى المدينة، وقال ثانيًا: كان مجموعة من الأوس والخزرج يخرجون يوميًا انتظارًا لمقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد أخبرهم بذلك رجل من يهود، حيث صعد رجل على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرونه، فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين، حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صامتًا، فطفق من جاء من الأنصار، ممن لم ير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحيّي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرف الناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك، فبداية لم يعرف الأوس والخزرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا عندما ظلله أبو بكر -رضي الله عنه، لذا لم يكن هناك أي نشيد لاستقباله -صلى الله عليه وسلم.
ليس بين قباء والمسجد النبوي ثنية
يتابع الفايدي في تفنيد مكان الثنية، ويقول: ثالثًا: مكث -صلى الله عليه وسلم- في قرية قباء عدة أيام ثم توجه إلى موقع مسجده الحالي، ولم تكن بين قباء ومسجده ثنيات حتى يتم استقباله بنشيد (طلع البدر علينا)، وإنما عم الفرح أهل المدينة عند وصوله -عليه السلام، حيث ارتفعت الأصوات «جاء نبي الله، جاء نبي الله»، فقد روى الإمام مسلم بسنده قال: عندما دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، صعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون: يا محمد، يا رسول الله، يا محمد، يا رسول الله.
رابعًا: نقل ابن حجر في الفتح: قدم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله حتى جعل الإماءُ يقلن: قدم رسول الله، وخرجت جوارٍ من بني النجار يضربن بالدفّ وهن يقلن: نحن جوار من بني النجار.. يا حبذا محمد من جار.
خامسًا: روى البخاري في الصحيح عن السائب بن يزيد قال: أذكر أني خرجت مع الصبيان نتلقى النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ثنية الوداع مقدمه من غزوة تبوك»، ومن رواية البخاري هذه استنتج بعض المؤرخين أن نشيد (طلع البدر علينا *** من ثنيات الوداع) قيل في رجوعه من غزوة تبوك.
يعلق السمهودي -رحمه الله- وهو أحد أشهر من كتبوا في تاريخ المدينة المنورة على ذلك، فيقول: كل هذه الروايات متظاهرة على أن هذه الثنية هي المعروفة بذلك اليوم في شامي المدينة (أي شمالها) بين مسجد الراية الذي على ذباب، ومشهد النفس الزكية، يمر فيها المار بين صدَّين مرتفعين قرب سلع، وإذا صحّ ما ورد في النشيد المذكور فإنه قيل فعلاً في رجوعه من غزوة تبوك.
سادسًا: لم تذكر كتب الحديث الستة ولا كتب السير هذا النشيد في حوادث الهجرة، واستثناءً مما سبق فقد ذكر ابن حبان في كتابه الثقات بيتين من (طلع البدر علينا)، علمًا بأن ابن حبان من علماء القرن الرابع الهجري، وذكر بعدها قوله «وأخذت الحبشة يلعبون بحرابهم بقدوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرحًا بذلك»، وفي نفس الصفحة السابقة، والصحيح أن الحبشة كانوا يلعبون بحرابهم داخل المسجد في يوم عيد، فكيف يكون ذلك ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ناقته لم ينزل بعد ليحدد موقع المسجد، كما لم يرد في كتب القرنين الأول والثاني، وهذا يجعلنا نقول إن النشيد كان يوم العودة من غزوة تبوك.
كشف المغالطة
يعود الفايدي ليستند إلى النشيد نفسه في إثبات المغالطة، ويقول «إن المدينة عند هجرته -صلى الله عليه وسلم- إليها كان اسمها «يثرب» وغيّرها القرآن الكريم ثم رسول -صلى الله عليه وسلم- لاحقًا، وفي النشيد يقال: جئت شرفت المدينة.. فهل يعلم الأوس والخزرج الغيب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيغير اسمها مستقبلاً إلى المدينة حتى قالوا شرفت المدينة».
اختلاف المناسبة
يعزز فايز البدراني، الباحث والمؤرخ، المهتم بتاريخ المدينة المنورة ما طرحه الفايدي في حديثه، مؤكدًا عدم ارتباط النشيد بقدوم الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة من خلال عدة أدلة، ويقول: أنا مع الرأي الذي يعتقد أن هذا النشيد الجميل لم ينظم في وقت وصول النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة في المرة الأولى مهاجرًا، بل إنه قيل بعد ذلك، وهناك أقوال كثيرة للباحثين، لعل من أهمها:
أولا: أنه قيل أثناء استقبال النبي في عودته من غزوة تبوك، ومن يرى هذا الرأي يستدل بذكر ثنية الوداع، وهي مرتفع صغير يقع على بعد كيلٍ تقريبًا إلى الشمال من المسجد النبوي، وهذا المرتفع يعبره الخارج من المدينة والقادم إليها من جهة الشمال.
ثانيًا: هناك من يرى أن هناك موضعًا آخر يسمى ثنية الوداع يقع على المدخل الغربي للمدينة، ويربط النشيد بمقدم النبي للمدينة مهاجرًا، وهذا قول ضعيف جدًا لأسباب كثيرة منها: أن قصة قدوم النبي إلى المدينة حظيت باهتمام المؤرخين والمحدثين ونقلوا لنا أدق تفاصيلها، ولم يشر أحد منهم إلى استقبال النبي بالنشيد المذكور!، وأن هذا النشيد لم يشتهر إلا في عصور متأخرة عن العصر النبوي وعصر الصحابة!، وأن مصادر تاريخ الهجرة لا تذكر توقف النبي في ذلك المكان، ولا تذكر أن الأنصار استقبلوه خارج المدينة؛ فضلاً عن أن يكون أستُقبِل بالأناشيد..
ولو حدث ذلك لذكره كبار الصحابة، واستدل به الفقهاء في باب الأهازيج والشعر والغناء، والأقرب أنه من وضع المتصوفة وأصحاب الموالد، استذكارًا للهجرة واحتفاءً بها.
الزيادة لا تلغي الارتباط
يؤكد د.عائض الردادي، دكتور وباحث تاريخي، أن موقع ثنية الوداع في شمال المدينة ودخول الرسول -عليه الصلاة والسلام- من جنوبها، موضحًا أن النشيد كان لاستقباله، لكن بعد وصوله لوسط المدينة.
والاختلاف نشأ من أن قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة كان من جنوب المدينة (مسجد قباء)، وثنية الوداع في شمال المدينة (أول طريق سلطانة)، فهل توجد ثنية أخرى في الجنوب!!.
قيل إن النشيد في قدومه -صلى الله عليه وسلم- من ثنية الوداع في الشمال عند عودته من تبوك، إضافة إلى ذلك أن مدخل المدينة كان من ثنية الوداع في الشمال للظروف الجغرافية في الجهات الأخرى.
والذي أراه أن النشيد في قدومه -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة، ولكن لم يكن عند وصوله إلى قباء، بل عند وصوله إلى وسط المدينة، حيث بركت ناقته القصواء؛ لأن وصوله إلى قباء لم يكن معلومًا حتى تستقبله الناس بالأناشيد، وإنما الوصول المعلوم هو وصوله إلى موضع المسجد النبوي، مما مكن الأنصار من الاحتفال به، وإنما ذكرت ثنية الوداع على الشائع وقتها، فلا طريق المدينة غيرها، وإن كان القدوم من جنوب المدينة على أن في هذا النشيد زيادات زيدت فيما بعد منها: «جئت شرفت المدينة»؛ لأن المدينة لم تعرف بهذا الاسم عند القدوم، وإنما سميت بهذا الاسم فيما بعد.