ما الفرق بين التفسير والتأويل؟.. هذا سؤال كُنا نطرحه ونحن في الثانوية على مدرس التفسير، منتظرين منه أن يُجيبنا كناقدٍ متبصّر، إلا أنه يجيبنا بما بين أيدينا من مقرر أُخِذَ من علوم القرآن، قائلا: «إن التفسير علم يُعرَف به فهم القرآن المُنزل» وأما التأويل فهو «تفسير الكلام وبيان معناه». وهذه الإجابة تُوصِل المعنيين إلى طريقٍ واحد، لهذا لم نخرج منه بإجابة دقيقة، بل إنَّ تشارك المعنيين هو ما أشار له بعضُ المفسرين كالطبري، لكن ربما أنَّ المدرس لم يفهم هذا التداخل في ما أورده من تعريفات، بل حفظها كما هي بوصفها فرقا.

إلا أنَّ الخلافَ عند المفسرين والمتكلمين، حول هذين المعنيين يتراكم بالتوازي مع تراكم المعرفة عند العرب، بدخولِ العلوم والفلسفات، ومن ثم شعروا بالحاجة لتفريقٍ يحدد آلية التعاطي مع القرآن بوصفه نصا سماويا، والتعاطي مع مضامينه بوصفها حلولا ومعانيَ للحياة المتغيرة.

فهل التفسير هو التقيد بظاهر النص، والتأويل صرف اللفظ عن ظاهره لمعنى مرجوح؟.


هذا ما قاله بعضُ من سعى لحلّ هذا التداخل، إلا أنهم ظلوا يحفرون في معنى ماورائيّ، ما يجعل من هذا التعريف صوريا في بعض الأحيان، فأحد الشيوخ السعوديين وهو يفسر نصَّ

«سبعة يظلهم الله في ظله...» قال: «والمراد بالظل-هنا-ظله الذي يخلقه الله، أي يخلق ظلا من أي مادة كانت، لا نعرفها؛ لأنَّ ظلَ الدنيا نوعان: ظل من الله وظل من الخلق، فإذا بنى الإنسان عريشا فالذي يستظل به، يستظل بما صنعه الآدمي، وظل السحاب ظل الله، لا يصنعه الخلق، ومن هنا فيوم القيامة لن يكون فيه ظلّ للبشر، فلا يستطيع أحد أن يبني ظلا، بل الظل ظل الله»، هنا تداخل الظاهر بما وراءه، وكأنه شارك علماء الكلام كلامهم، وكأنَّه يقول أيضًا بأنك لن تستطيع أن تعطي معنى ظاهريا بمعزل عن تدخّل العقل في تأويله.

لهذا ما يجعل العرب يشقون خطهم الفلسفي، هو الأفق الديني - بمعناه الواسع - الذي يؤرقهم، لهذا جاء ابنُ تيمية بـ«درء تعارض العقل والنقل»، ليُقدِم النقل، لأنَّ العقل مُصدِّق له، والنقل لم يُصدق العقل في كل ما أخبر به، ومن ثم فإنَّ النصّ هو دليله لمعرفة ما يتعلق بالله وصفاته، وكأن ابن تيمية يشير إلى جعل التفسير مرتبطا بما يُعرف بالفطرة، وأما التأويل فهو ما وراء ذلك. ولعل مثال ذلك لفظ «استواء الله» أعطاه ابنُ تيمية - بناء على مقولة مالك -منحى تفسيريا/تأويليا/ظاهرا، وهو الاستواء الذي نعرفه، والثاني: منحى تأويلي/باطني/مجهول، وهو كيفية الاستواء.

وهذا ليجعل التأويل مرتبطا بالحقائق الموجودة بين أيدينا، لا ما نتصورها في أذهاننا.

وهذا معنى حسيّ انطلق منه ابنُ تيمية، ليفند عقليات المتكلمين، وهو في الآن نفسه سيُحدد طريقا للتفسير معقودا بنص: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب...» أي باعتبار هذا النص طريقا لتمييز ما هو ديني، عما هو آراء في الدين.

وأشيرُ هنا لما أورده الراغب الأصفهاني، حين أعطى للتفسير معنى أشملَ من التأويل، ليجعل التفسير لأي كتابٍ بما فيها الكتب الإلهية، وأما التأويل فهو للكتب الإلهية خاصّة، وهذا - مع ما جاء به ابن تيمية - تفريقٌ سيحيلني لما أريد أن أقوله، في معنى التنجيم العربي، وكيف تعامل العرب معه بمنطقهم، لا بمنطقِ الثقافات الأخرى، أي أنَّ العرب وهي تفكر بالفلسفة والكلام، إنما تستحضر المعنى الديني وهو يتأصل بطريقٍ مغاير، أي كانت تنظر للدين بمنظار الإسناد، الذي يشير إليه ابنُ المبارك بقوله: «لولا الإسناد لقال مَن شاء ما شاء»، ومن ثم فإنَّ هناك نصًا، تفسيره هو نقله كما ورد، وشرطه ألا ينقطع السند، وإلا سندخل في مرحلة التأويل، تلك المرحلة التي يتعاطى فيها العقل دون إسناد من سابقٍ له، وهو هنا ليس الدين، بل رأي في الدين، لهذا نجد المتكلمين يُشيرون إلى هذا، فالماتريدي يقول: «إنَّ التفسير هو القطع بأنَّ المراد هو هذا، والتأويل ترجيح أحد المحتملات»، وكأنّه يشير بمفهوم القطع إلى مرحلة عليا من الثقة، مع أنَّ المتكلم هنا سيحيل القطع إلى مفهوم عقلاني، لكن ما أريده هنا إثبات التفكير الدائم بين المتكلمين والسلفيين، للبحث عن يقينٍ لمراد الدين، لهذا فإنَّي أصِل - من خلال هذه المقالة - إلى أنَّ التفسير هو ما ارتبط بالإسنادِ ضرورةً، والتأويل ما كان فيه قطيعة مع الإسناد بصورةٍ ما.

من هذا التفريق القَلِق، تعامل العربُ مع التنجيم، بوصفه تأويلًا في مقابل النبوة بوصفها تفسيرًا، فحين نتأمل حالَ العرب مع مفهوم الكون وكيفية عمله، نجدهم على أمرين: الأول التسليم التام بأنَّ المتصرف في الكون هو الله وحده، وهذه الواحدية مرتبطة بمفهوم الغيب عند الإنسان، والثاني أنَّ المتصرفَ في الكون هو الله، إلا أنه وضع نجومًا لها أحكام، تؤثر على ما يجري وسيجري، ومن هنا فإنَّ العربَ تعاملت مع التنجيم، بالرؤية العربية - المرتبطة بمفهوميْ التفسير والتأويل كما تُعرِّفها هذه المقالة - إذ إنهم أعطوا للتنجيم سياقا يفصله عن الإسناد النصّي، وفي الآن نفسه يربطه بقدرة الله التي تُغيّر بوصفها إسنادًا كليا. فيروي التوحيديُّ حكايةً مفادها أنَّ أربعة منجّمين اجتمعوا عند الموفق بالله، فقال لهم: إنه أضمر شيئًا، فكيف ترونه في تنجيمكم؟ قال أولهم - وكان أعلمهم بالنجوم بحسب الرواية - أضمر الأمير رئاسة وسلطانا، فقال له: أخطأت، فقال الثاني: أضمرتَ عقد أمرٍ جليل، قال: أخطأت، وقال الثالث مثلهما، حتى جاء دور الرابع فقال: أضمر الأميرُ اللهَ، فقال: أحسنت، كيف عرفت؟ قال: الرأسُ يرى فعلَه، ولا يرى نفسَه، وكان في أرفع درجة في الفلك في الضمير، ولم أعرف له مثلًا إلا الله؛ لأنَّ الله يُرى فعله، ولا يُرى هو، وهو فوق كلِّ رفعةٍ، ليس فوقه سلطان.