وهذا (الاستئناس) هو المصطلح والمبدأ المناقض لمصطلح ومبدأ الوحشة والاستيحاش، وتلك الوحشة أتت بعدما ظن أنه قد يتبدى لهذا الإنسان المستوحش في عالمه الذهني، أنه قادر على تحقيق كل شيء والوصول إلى بغيته ومناه في أي وقت، وتبادر له في تصوراته الذهنية عدم وجود حاجز يمنع تلك الأحلام والتصورات الذهنية، وبنى على تلك الاعتقادات ما يخال له أنه هو المسار الحقيقي الذي ستجري عليه حياته، فيؤسس العزم والاهتمام على جعل كل سكناته وتحركاته لنيل ذلك المبتغى، والوصول إلى هدفه الذي يركن إليه أنه يُحقق ذاته وكيانه إذا ما وصل إليه، فلا ينفك عنه حتى يظهر له الاستيحاش والتعب من ذلك المسار.
ولإظهار المعنى، فإن الإيحاش والاستيحاش بمعنى واحد وهو مصدر استوحش، والإيحاش مصدر أوحش يوحش إيحاشًا، والمفعول منه موحش، فيقال مكان موحش، والوحشة مصدر وحش، والوحشة الهم والخلوة والخوف، ويقال في الهم أخذته الوحشة.
فالاستيحاش هو إدخال الوحشة على الإنسان، وهي بمعنى الهم والغم والوحدة والخوف، فالمعنى اللغوي متضمن للمعنى الحقيقي للإيحاش والاستيحاش. ووحشة النفس تأتي من خلال مسببات وعلل تجعل تلك الروح والذات الإنسانية التي هي من أعظم وأكرم مخلوقات من أبدع هذا الكون بكل ما يحتويه من درر وهبات، عندما يُدركها الإنسان يكون في حيرة وإعجاب يذهب بعقله من شدة صنع ما يراه.
ومع كل الإعجاب فإن هذه الروح والنفس الإنسانية أفضل وأعظم وأعقد مما يتصوره الإنسان. فالروح والذات الإنسانية هي التي تبعث في الجسد السعادة ولو لم تكن هذه النفس تملك مثقال حبة من خردل إلا أن هذه الذات الإنسانية تؤسس في داخل الروح جانب القناعة، فترضى وتقنع، فتصبح وكأنها ملكت الدنيا، فلا تستوحش من أي شيء يأتي، ولا تتحسر على أي شيء فات (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)، حيث إنه كلٌ من عند الله لمن يؤمن بمبدع هذا الكون وأنه المتصرف الأوحد فيه. هذا هو الإيمان الكلي المطلق ولا إشكال فيه عند المؤمنين أجمع.
إلا أن الذات والروح الإنسانية عندما تمضي بها السنون ويبطئ بها العهد، وتتلقى المعارف وتزداد الخبرات في مخزونها، فإنها في مرحلة من مراحل تنقلها قد تجد الوحشة والاستيحاش مما يدور حولها. هذا الاستيحاش والوحشة النفسية هي داخلية تمضي وتتردد داخل الروح والذات الإنسانية.
ومن خلال تأملاتي فإن الوحشة والاستيحاش تكون بدايتهما عند الإغراب عن الأهل والمجتمع من خلال التفرد العلمي والمعرفي، فلا يقبلون ذلك المسار الذي تمضي عليه تلك الروح والذات الإنسانية التي تجد سعادتها في الاستغراق بالفكر والكتب، وإمضاء الساعات الطوال مع تلك المراجع التي كانت ولا تزال سببًا في الوحشة والاستيحاش بين تلك الذات الإنسانية التي تعشق الكتب، وبين أولئك الذين يُعادون وينفرون من الكتب، فتنشأ تلك الوحشة وينبت الاستيحاش، وتترتب عليه تلك العزلة الذهنية والابتعاد الروحي بين ذوات متقاربة حسيًا، بيد أنها متنافرة من داخلها.
وعند تأمل تلك الوحشة والاستيحاش وتتبع وجودها في الذات الإنسانية لدى من يشعر بها ويُحس بوقعها، فإنه سيجد هذه الوحشة في البيت والعمل والشارع، عند الأهل وبين الأصدقاء. وحشة في البيت لأن من حوله يختلفون عنه في الفكر، حتى في الرؤية للأشياء وتقييمها هناك اختلاف شديد جدا، بل اختلاف معقد لا يمكن حله.
وهناك وحشة في العمل من حيث المبادئ الأخلاقية والرؤية لتلك الأخلاقيات، بل إن مبادئ المصداقية والشفافية والنزاهة فيها اختلاف شديد عند تنزيلها وتطبيقها في العمل، ثمة اختلاف في المعرفة العلمية والخبرة العملية، وهذا التفاوت يخلق وحشة شديدة وقاسية تؤدي إلى العزل والتجميد والتحقير، فهي وحشة واستيحاش يصل إلى المعنى الحقيقي لقوله تعالى في قصة الثلاثة الذين خلفوا (وضاقت عليهم الأرض بما رحبت)، أي بما نالهم من فرط الوحشة وبما حصل لهم من الجفوة وشدة الغم والحزن.
وفي قوله (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)، فالوهن ضعف النفس، والحزن ألم نفسي يصيب الإنسان عند فقد ما يحب أو عدم إدراكه أو عند نزول أمر يهم النفس، ويجعلها في هم دائم.
وفي ظني أنه كلما تقدم الإنسان في عمره كلما ازدادت وحشته واستيحاشه من واقعه المعاصر، وذلك لإدراك تلك الروح والذات الإنسانية المستوحشة، حقائق لما يُدركها بعدُ العامة، فهي تقول من عرف مثل معرفتي أدرك وحشةً مثل وحشتي فأيقن بتجربتي.