1

لو سألني أحد عن خلفية القرن العشرين الدينية المتعلقة بالإصلاح لقلت ابن تيمية. لذلك فإن أسئلة مهمة بقيت دون جواب إلى الآن: لماذا نمت أفكار ابن تيمية بالصورة التي نمت بها؟ ولماذا هي موجودة؟ ولماذا تظهر في كل مرحلة تاريخية منذ القرن الثامن الهجري؟ ولماذا تكثفت في القرن العشرين؟ وكما نلاحظ فهذه الأسئلة لا تركز على معرفة ابن تيمية الدينية؛ فنحن نعرفه إما بشكل جيد تبعا لمحبيه، أو بشكل سيئ تبعا لكارهيه، إنما تركز على الظروف التي نمت فيها معرفته، وكيفية قراءته، وبالتالي كيفية تلقيه.

مقالي لا يحتمل تفصيل الاختلافات الجوهرية جدا بصدد تأويلات ابن تيمية في القرن العشرين. يكفي للمهمة التي حددتها للمقال أن يعرض التيارات الأساسية. فقد استخدم السلفيون ابن تيمية مرجعا في أن الدين أفيون الشعوب، واستخدمته حركة الجهاد العالمي مرجعا في أن الدين فيتامين الشعوب، وبين هؤلاء وأولئك استخدمه الإصلاحيون مرجعا في أن الدولة دنيوية والدين إلهي.


في ضوء هذه الاستخدامات قسم عمرو بسيوني في مقدمته لترجمة كتاب جون هوفر «ابن تيمية، حياته وفكره» استخدامات ابن تيمية إلى ثلاث فترات؛ فمن وجهة نظره فقد احتاج الناس في الفترة الأولى إلى ابن تيمية لرفد مشروع ديني وهو السلفية، وفي الفترة الثانية احتاج مشروع آخر إلى ابن تيمية، وهو مشروع الإصلاح الديني الذي يتقاطع مع السلفية، وفي فترة الثالثة أصبح ابن تيمية سلاحا فيما عرف بحركة الجهاد العالمي. ليخلص إلى أن ابن تيمية أصبح في كثير من الأحيان صورتين متناقضتين، لفكره وعقله وزمنه وتراثه، وليس فقط لبعض آرائه.

وفي الواقع أنه تقسيم مناسب، لكنه غير كاف في رأيي من دون سؤال تزامن أو عدم تزامن هذه القراءات. نعم. هناك تزامن في المجتمعات الإسلامية، فلو توقفت عند بعض المجتمعات الإسلامية فسنجد هذه القراءات متزامنة. لكن التزامن لن يكون له قيمة تحليلية. تكمن القيمة في التعاقب؛ لأنه يبين إلى أي حد مثلت قراءات ابن تيمية تقدما أو تخلفا؛ فالسلفية مثلا خلصت المجتمعات الإسلامية من خرافات الحياة اليومية، والإصلاح الديني حاول أن يخلص العقل من الخرافات. ويبقى السؤال المهم هو ما الذي قصرت فيه القراءة السلفية والقراءة الإصلاحية لكي تتراجع قراءة ابن تيمية إلى قراءة جماعات الجهاد العالمية؟

في رأيي أن هاتين القراءتين لم تكونا قراءتين نقديتين لتجردا الزمان والمكان من خرافاتهما؛ فقد ابقتهما مثلما هما في أذهان الناس لا سيما علاقتهما بالمقدس. لم تجعل القراءة السلفية ولا القراءة الإصلاحية من الزمان مجرد دقات ساعة مستقلة ومتميزة عن أي بعد مقدس، ولم تجعلا من المكان محض علاقات بين المسافات والأبعاد دون أي علاقة بالمقدس. وبالتالي فقد فشلتا في العمل التمهيدي لتقدم المجتمعات الإسلامية، وهو الفشل الذي أظهر القراءة المتطرفة لابن تيمية، فلو حللنا خطاب دعاة التطرف والعنف لوجدنا أن الزمان والمكان المقدسين هما الأرضية التي نشأ عليها خطابهم الديني.

2

هناك إذن ثلاث قراءات لابن تيمية في القرن العشرين من قبل ثلاث شخصيات رئيسية هي قراءة الشيخ السلفي، وقراءة الإمام الإصلاحي، وقراءة الداعية المتطرف. يجمعهم بين هؤلاء فرضية واحدة وهي أن العودة إلى ابن تيمية ضرورية لتتجاوز المجتمعات الإسلامية أوضاعها. لكن فشل الشيخ السلفي دفع إلى ظهور الإمام الإصلاحي، وفشل هذا بدوره، دفع إلى ظهور الداعية المتطرف.

لقد واكبت هذه القراءات لابن تيمية حالة المجتمعات الإسلامية، إما وهي هي على تخوم العصر الحديث وإما على تخوك الحداثة، وتحولت قراءة ابن تيمية بتحولات المجتمعات الإسلامية. فالشيخ السلفي مثلا ظهر في المجتمع الإسلامي الذي ينتمي إلى القرون الوسطى، وعلى تخوم العصر الحديث. وظهر الإمام الإصلاحي في مجتمع النهضة، ثم ظهر الداعية المتطرف في المجتمع الإسلامي الذي بدأ يتفكك، وتتبدل فيه أنماط التفكير القديمة، ويشكو من القلق والانهيار، وإعادة بناء القناعات، والعادات والأعراف.

يمكن القول إذن إن قراءة ابن تيمية نتجت عن صراع اجتماعي، وبالتحديد خصومات معينة كان الدين فيها نقطة الصراع الأساسية. قد لا أكون دقيقا في وصف المجتمع الإسلامي، لكنني اتخذت هذه الوضعيات القصوى في وصف المجتمع الإسلامي، لكي أوضح أن ما أثر في المجتمع الإسلامي على امتداد أكثر من قرن من الزمان ليس فيما قاله ابن تيمية، بل فيما فهمه الشيخ السلفي والإمام الإصلاحي والداعية المتطرف. ويمكننا من خلال المقارنة بين فهم هؤلاء الثلاثة أن نعرف مخاطر القراءة؛ فهي ليست بريئة، بل قد تكون آثمة، وأنها ليست مجرد معرفة المعنى، بل هي نواحي التأثير التي تدفع إلى الفعل.

3

قد يكون هؤلاء الثلاثة من محبي ابن تيمية يسبغون عليه من الصفات الجليلة ما يستحقها. وهي بطبيعة الحال صفات غير مفيدة معرفيا؛ لأنها تتوقف على وجهة نظر الشخص الذي تبناها، كما أنها قد تتطابق وقد لا تتطابق، لأنها تستند إلى التقدير الشخصي للواصف، وليس من الرغبة في المعرفة. وفي مقابل هؤلاء يقف ناقدو ابن تيمية وكارهوه، وما يقولونه عنه لا يختلف عما يقوله محبوه في أنه غير مفيد معرفيا لأن ما يصفون به ابن تيمية ليس أكثر من تصورات شخصية. على أن ما يجب أن نركز عليه هنا هو أن نفهم بشكل عام أن كل تأويل إما أن يكون مع تأويل آخر أو ضده.

وبشكل خاص يعرف المتابع لمحبي ابن تيمية وكارهيه أن تأويلات القرن العشرين لابن تيمية صاحبتها الطريقة المألوفة للحوار؛ وهي التي ينفي فيها محبوه كارهيه أو العكس. لكن أحدا من هؤلاء لم يسأل عما يعنيه استمرار الحوار عن ابن تيمية من دون أرضية مشتركة، ولا عن السبب الذي تعذر معه أن تكون أرضيتهما المشتركة هي أن أحدهما في حاجة إلى الآخر؛ كاحتياج الواحد منا إلى أن يتحدث مع الآخر، وأن كل واحد منهم مكشوف أمام الآخر، في فرادته، وفي ضعفه، وأن حالتهم الاجتماعية والسياسية تتكون جزئيا من تعلّمهم التعامل مع بعضهم.

لقد كان من الممكن أن تكون (نحن) جمعا لـ (أنا وأنت) وليس جمعا لـ (أنا) فقط. ومشكلة محب ابن تيمية وكارهه أن كل واحد منهما مشغول بالثناء والتأكيد على حقوق الـ (أنا) من دون أن يعتبر حقوق الـ (أنت). ويمكن للمرء أن يستعير طريقة المفكرة كافاريروا في شرح الفكرة فيقول مع تصرف بسيط إن المتطرفين من محبي ابن تيمية ومن كارهيه يشتركون في شفرة لغوية تعتمد الضمائر اللغوية؛ فـ (نحن) إيجابية دائما، و(أنتم) حليف ممكن، أما (هم) فأعداء وغرماء، و(أنا) شاذة ونافرة عن الجماعة، أما (أنت) ففائض عن الحاجة، ولا داعي لك.