كنت سألت عن ماهية القواعد الدستورية للدولة المدنية التي تتداولها أفواه ولا تسبر غورها عقول، ولست أزعم علماً خاصاً بهذه القواعد غير ما توحي به تجارب شعوب كان لها من المعاناة قدر الذي حلّ بنا، لكنها استطاعت قهر التخلف وتمكنت من اللحاق بركب العصر كما هو حال بعض دول آسيا.
أدرك أن الدولة المدنية الحديثة هي المخرج الوحيد من مختلف الشرعيات الأخرى، وأنه ما من وسيلة غيرها يمكن التعويل عليها لتفادي كوارث التفتيت ودعوات التشظي ومشاريع تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ.
ومع سابق علمنا بطبيعة الأوضاع في مجتمعات الربيع العربي وإلى جانب افتقار ثقافتها العامة لرصيد معرفي مدني أو تجربة تمد الحماس الشبابي بزاد من خبراتها ما جعل المخرجات أقرب إلى الواقعية التصالحية مع تراث الأنظمة المطوح برؤوسها منها إلى استيعاب وإنجاز أسس الدولة الحديثة، وعلاوة على ذلك فإن الدعوات المطالبة بقيام حكم مدني لا تتسق والمتغيرات الناجمة عن مخاض التغيير.
إن إلقاء نظرة فاحصة في مآلات آخر موديل من ثورات القرن الـ 21 مقارنة بثورات العرب من أربعينات إلى ستينات القرن العشرين سوف تكشف عن توقف عقارب الزمن عن الدوران خلال معظم الوقت الفاصل بين رحلتي الشتاء والصيف، وإذا كان ثمة متغير في الدوافع المحركة مجرى الثورات العربية فإن مرده لرحيل الاحتلال الخارجي المباشر وإحالة مهامه على مسؤولية حلفاء محليين يقومون بتحقيق أهدافه وتأمين مصالحه والتضحية بأرواح شعوبهم بدلاً عنه، وهؤلاء هم تحديداً من أساؤوا استخدام ثقة الاستعمار ولم يستوعبوا طرائقه المجللة بمسوح الديمقراطية ومزاعم الدفاع عن حقوق الإنسان
لقد تضخمت مصالح الوكلاء وتمددت مشاريعهم وألحقوا الشقاء بشعوبهم لهذا عدّت ثورات القرن الواحد والعشرين تكملة ضرورية لثورات التحرر العربي.. وقد لا تكون هذه القراءة حاضرة مدركات الشباب سيما وأن إسقاط صورة المستبد المخلوع أشبعت غرور الثوار وشغلتهم عن تعقب أدوات المستبد التابع؛ وهو الأمر الذي يقود لاحتمالات استنساخه في أحشاء ثورات الربيع تماماً كما كان هذا أحد أسباب توعك ثورات التحرير والتحرر الأولى.
إن الصراع المبكر على السلطة قبل استكمال أهداف الثورة وبروز الانقسامات في سوحها والإسراف في شخصنة مسار التغيير وتحويل الساحات إلى مزارات كنسية تعطي صكوك الغفران مثلما تخلع نعوت الوصم.. واستقواء القوى التقليدية – المحسوبة على التغيير – بمنطق الغلبة الموروث عن الأنظمة المخلوعة، وتعطيل دور العقل عن إطلاق مجسمات أولية للمحددات الدستورية الحاكمة، كل هذه الإعاقات تؤدي دورها في استنساخ الاستبداد التابع وإرجاء مشروع الدولة الوطنية المتحررة من الارتهان والتبعية ليحل مكانها أضغاث أحلام مجتزئة تستدعي الصراع أكثر من تماهيها مع روح الربيع وكرومه.
ولن يلبث الأمر غير قليل وإذا بنا في مواجهة بؤر ملتهبة تخطف المشروع الوطني من دائرة اهتمام شعوب ترهقها أحلام الثورات وتدميها خناجر المستبد التابع وجيناته المتنامية في حضانات الثوار وخارجها.
إن أكثر التطلعات إخفاقاً تلك المنبثقة من الرغبات المتسرعة وبالنظر إلى مجريات الأحداث وما أفصحت عنه تطورات الصراع يمكن الجزم بأن مجتمعات الثورة ما برحت زمن ما قبل الدولة الوطنية دونك والمبالغات المثارة حول الدولة المدنية.
وما لم تسارع القوى السياسية الخيّرة في مجتمعاتنا نحو إجماع عريض حول مفاهيم ومرتكزات وأسس بناء الدولة الوطنية القادرة على تنمية قدرات الشعوب والارتقاء بمستوياتها التعليمية على النحو الذي يؤهلها لتحقيق شروط الدولة المدنية، فإن وقتاً طويلاً من صراعات ثانوية سينشأ بفعل الانقسامات المتوقعة بين نشطاء الدولة المدنية وتيار الدولة الدينية بينما تظل نتوءات وتحالفات الأنظمة العائلية في واقع ما قبل الدولة متحفزة تتحين فرص استعادة السيطرة على تركة الرجل المريض أو بالأحرى الرئيس المخلوع.
على أن ما يهم شعوبنا في راهنها المعاش ليس هوية نظام الحكم، جمهوري أم تقدمي أم راديكالي رأسمالي أم اشتراكي، ولا أيهما أقدم الدولة الوطنية أم المدنية أم الدينية؟ وإنما مضمون النظام السياسي ومحدداته الدستورية الحاكمة وبطليعتها نزع القداسة عن أي منجز بشرى إلا بقدر مردوه الإيجابي على حياة الإنسان، وتلازم المسؤولية بالمساءلة، واعتبار التعليم أول وأجل مهام الدولة، وتقديم الحقوق على الواجبات، وإحلال التشريع الوطني بدلاً عن التشريع الحزبي، وتأكيد مسؤولية الدولة عن الحرية والعدالة، وتكافؤ الفرص والمواطنة المتساوية.
إن القواعد الدستورية بأفق قومي منفتح هي ما نحتاجه في اليمن لحماية حق التعدد والتنوع والتمايز والاجتهاد في إطار المشروع الوطني الجامع، وأن تغدو السلطة كل السلطة للشعب فلا تحتكر ولا تركز بيد شخص أو مذهب أو منطقة أو سلالة أو حزب، وأن يكون للشعب وحده حق تقرير الوظائف السيادية المركزية للدولة والاحتفاظ بما عداها للمجتمعات المحلية.
إننا إزاء مفترق طرق ومن غير اللائق تقويض فرص إنجاز القواعد الدستورية الحاكمة التي تؤمن مشروعية التباري البرامجي على السلطة والتوافق على تحديد سقف البقاء في سد الحكم بدورتين انتخابيتين، وبأقل العبارات وأظهرها وضوحاً وبساطة يمكن صياغة القواعد الضامنة حق المواطنة وقداسة الانتماء، وعدم جواز تجريد الإنسان من هويته الوطنية، وما لم تحتل أسس الحكم الأولوية القصوى من الاهتمام وتكرس الجهود على تحديد وظائف الدولة فسيبقى الصراع على السلطة لذاتها خالياً من النبل عديم القيمة مقطوع الصلة بمصالح المجتمع، وستظل الأُمة ولاّدة ثورات تبدأ وتتناسل ولا تنتهي إلى غاية عظيمة أو هدف قويم.