(منمنمات تاريخية) مسرحية لسعد الله ونوس، هامة بأكثر من معنى، إذ إضافة لاختيارها مرحلة تاريخية بالغة الدلالة فإنها تختار حدثًا بارزًا (غزو التتار للمنطقة)؛ وتختار طيفًا واسعًا من الشخصيات والمواقف لتطرح من خلالها مجموعة من الأسئلة الهامة الدقيقة والحارقة. لتدخلنا، في النتيجة، في صراع مع أنفسنا مع ما حولنا، لعل التأمل والتساؤل يصلان بنا إلى بداية الطريق.

وإذا كانت دراسات أخرى ستتولى الجوانب الفنّية في هذه المسرحية، لتضعها في الإطار الجدير بها في مسرح سعد الله ونوس ثم في إطار المسرح العربي بعامة، فقد ارتأيت الوقوف عند دور المثقف، وابن خلدون نموذجًا، لكي نضبط الإيقاع حول ما يفترض أن يكون دور المثقف، وكيف يجب أن يؤدى انطلاقًا من المعرفة وباعتبار أن الثقافة بمقدار ما هي ميزة فإنها في ذات الوقت عبء ومسؤولية.

ليس في الثقافة حياد، ولا يمكن أن يكون المثقف محايدًا، الثقافة موقف، وانحياز لهذا الموقف. حتى من يعلن الحياد أو يدعيه فإن ذلك موقفه وبالتالي يحدّد موقعه وطريقته في رؤية الأحداث ثم علاقاته وأخيرًا احتمالاته.


وباعتبار أن «ثروة» المثقف ووسيلته هي! المعرفة، وإيصال هذه المعرفة إلى الآخرين، فإن ما يُراد إيصاله، وطريقة هذا الإيصال يصبحان بمرور الأيام مهمته الأساسية، وربما الوحيدة. وهذه المهمة يكتسبها المثقف بالموهبة والمران وبمقدار إتقان المثقف لمهمته، وارتفاع موقعه في سلم المعرفة تزداد مسؤوليته، لأن الأمر يصبح نوعًا من القدرة والتأثير على الآخرين، كما الآخرون أكثر استعدادًا لتقبل هذا التأثير والتعامل معه، ومن هنا تنشأ علاقة ضمنية بين طرفين أساسها القناعة والثقة.

والمثقف ابن عصره أو هكذا يُفترض أن يكون وحصيلة ما اكتسبه من ثقافة ذلك العصر، وأيضًا مساهم في إيصال هذه الثقافة، وما يستطيع أن يضيف إليها، أو يستشرف من خلالها، إلى الآخرين. وبمقدار الجدية والنزاهة والجرأة في الفهم والتعامل يتمكن من التأثير بالآخرين وبالعصر. وتبعًا لذلك يتحدّد دوره وتتحدّد أهميته.

ولأن المثقف يمتلك إمكانية ووسيلة ليستا متاحتين للآخرين بنفس المقدار، فإن المسألة أولًا، وفي النتيجة تتحدّد بكيفية توظيف هذه الإمكانية: في خدمة أي غرض؟ وللوصول إلى أي هدف؟

فإذا اعتبرت فرضيتنا أن على المثقف أن يكون ابن عصره صحيحة، فهذا يعني أن يكون منغمسًا في ذلك العصر، وأن يساهم، من الثقافة، بالدرجة الأولى باعتبارها وسيلته في التفاعل والتأثير، في أحداث العصر، وأن يكون له موقف، وأن يعطي لذلك العصر، إذا استطاع، نكهة وملامح تجعله أكثر إنسانية، أو على الأقل أخف عذابًا وشقاء، وتمكنه أيضًا من فتح أبواب المستقبل.

وكما لا يوجد مثقف محايد، فإن أغلب العلوم لا تعرف الحياد أيضًا. وإذا كان بعض العلوم يحتمل ذلك، كالرياضيات والفيزياء والفلك على سبيل المثال، فإن من يعمل في هذه الحقول، كإنسان ليس محايدًا، أو يجب ألا يكون. بل أكثر من ذلك يحسن به، إذا كان هذا متاحًا، أن تكون نتائج أعماله في خدمة الإنسان، ومن أجل سعادته ورفاهه، ولدينا أمثلة لعلماء في تلك الحقول بزوا علماء الإنسانيات في مدى الصرامة الخلقية والدفاع عن القيم الإنسانية.

ثم إن الدفاع عن القيم التي تواضعت البشرية على اعتبارها قيمًا إنسانية وأخلاقية، يصبح أكثر ضرورة في المراحل التاريخية الصعبة، دور المثقف أكثر أهمية لأن المثقف في مثل هذه المراحل لا يتكلم باسمه وحده وإنما يعبر عن ضمير الناس وطموحها، وينطق باسمها أيضًا. وهذا ما يحمّله مسؤولية إضافية، لأن الإنسان الفرد، حين يحمل السلاح للدفاع عن قضية فهذا أقصى ما يستطيعه. أما المثقف الذي ينطق باسم الآخرين، وعلى ضوء مواقفه وما يقوله يتحدّد الكثير من النتائج، فإن السلاح الذي يمتلكه شديد الفتك والفعالية سلبًا وإيجابًا، خاصة، أنه نابع من الوعي والضمير، الأمر الذي يجعل «محاكمة» المثقف في مثل هذه الحالات أشد صرامة وأكثر إلحاحًا، لأن الناس في حالات كهذه لا تكتفي بالغرائز أو الدوافع العفوية، بل وتحتاج أيضًا إلى الوعي والمسوغات لتحصين مواقفها والدفاع عنها، اعتمادًا على المحاكمة العقلية، والقناعة على ما يقدمه المثقف، أو هذا ما يجب أن يقدمه.

اعتمادًا على ما تقدم نحاكم ابن خلدون، ليس بهدف الإدانة، وإنما باستحضاره كنموذج لمثقف كبير قدم إضافات هامة ونوعية في قراءة المجتمعات، وفسر تطورها من صعود ورفعة، ثم ما يلحقها من تآكل نتيجة الترف وانحلال العصبية، والتنازع.

إن مثقفًا بهذه الأهمية وبهذا الحجم وأيضًا خلال تلك الفترة العصيبة من تاريخ العرب في مواجهة الغزو التتري، كان يُفترض أن يرفع ثقافته ومعارفه إلى مستوى تاريخي، خاصة وهو في تلك السن المتقدمة. ولعل الصمت، لو حصل كان أقل المواقف التي يمكن أن تقبل له أو منه. أما أن يسخّر، ثقافته، ومنصبه السابق، بتسويغ الغزوة التترية، ويكون نديمًا لتيمورلنك، ويعتبره أعظم حاكم منذ أيام آدم، وأن يبدي شوقه ولهفته لهذا اللقاء الذي كان ينتظره منذ ثلاثين أو أربعين عامًا بحيث إن ترجمان تيمورلنك نفسه، الفقيه عبدالجبار، القادم من خوارزم يستغرب هذا الشوق وتلك اللهفة فيسأل ابن خلدون باستغراب وقبل أن يترجم لسيده، لماذا؟ فيؤكد ابن خلدون، وقد ألغى عقلانيته كلها أن الأمر كما قال المنجمون، وهو بالتأكيد يعرف مدى الاختلاق فيما يقول!

قد يأتي وقت آخر للحديث عن ابن خلدون «الآخر» العالم، الذي توصل إلى نتائج هامة في علم الاجتماع، لكن هذا «الآخر» يزيد في مأساة الأول، وقد لا يكون من المبالغة القول إن دراسة من هذا النوع ربما تضيف إلى علم النفس اصطلاحات جديدة فأوديب وعطيل وهاملت وميكافلي ليسوا أكثر أهمية من ابن خلدون.

.. وأخيرًا.. يكفي سعد الله ونوس نبالة وبعد نظر أنه وضع يده على واحدة من المعضلات الكبرى التي خلقت، ولا تزال، إشكالات للثقافة وللمثقف في آن واحد.

والكلمة الأخيرة التي يمكن قولها في هذا المجال، ونستعيرها من سعد الله ونوس الذي نسبها إلى مؤرخ قديم: «وفي هذا اليوم هبت ريح باردة تلزق على الوجه وتجعل الأنف كقطعة البلور، وارتفعت المياه في بردى وصارت تجري على قوة وتجرف الأغصان والجذوع المتكسرة».

1995*

* كاتب وروائي سعودي «1933 - 2004»