إن أهمية هذا السؤال بالنسبة لموضوعنا ترجع، لا إلى مضمونه، بل إلى وظيفته. وسنرى فيما بعد أنه من هذه الزاوية سؤال مبرر تمامًا.
وهناك من جهة أخرى - وفي أذهاننا دائمًا - صورة عن العصر الجاهلي غير تلك التي أبرزنا بعض معالمها، صورة قوامها حياة فكرية نشطة، وأسواق للفكر والثقافة وقدرة على الجدال والنقاش والمُحاجة، تتجلى خاصة فيما أسماه الشيخ مصطفى عبد الرازق بـ «الجدل الديني» والذي كان بالفعل نوعًا من «الكلام»، قبل أن يقوم «علم الكلام«في الثقافة العربية الإسلامية. ليس هذا وحسب، بل إن القرآن، وهذا ما يجمع عليه المسلمون منذ القديم إلى اليوم، لم يكن ليخاطب العرب بتلك الصور البيانية الساحرة والمعاني السامية والحجج (العقلية) الكثيرة لو لم يكونوا في المستوى الذي يجعلهم قادرين على التعامل معها فهما واستيعابًا. وأكثر من هذا وذاك فإن المرء لا يسعه إلا أن يلاحظ أنه لو لم يكن العرب ذوي ثقافة في مستوى متقدم لما جادلوا القرآن ولما قالوا عنه إن هو إلا «سحر يؤثر» من جنس سحر الشعر وسجع الكهان.. إلى غير ذلك من الاعتراضات التي سجلها القرآن ورد عليها.
نحن إذن أمام صورتين مختلفتين عن العصر الجاهلي تقدمها لنا كتب التراث مستندة في الغالب إلى إشارات وردت في القرآن بصيغة أو بأخرى. وبالرغم من أنه يمكن قبول الصورتين معا، وفي آن واحد وباعتبار أن إحداهما تعكس حياة الأعراب وأخرى حياة الحضر، أو أنهما تمثلان مظهرين من مظاهر ذلك العصر ككل، فإنه من الضروري الانتباه مع ذلك إلى أن صورة العصر الجاهلي في الوعي العربي لم تكن دومًا وليدة المعطيات التاريخية وحدها، ولا نظن أنها كذلك اليوم، بل كانت، وما تزال، خاضعة لمتطلبات تنتمي إلى (الحاضر)، حاضرنا نحن أو حاضر من كانوا قبلنا، وإذا شئنا الدقة قلنا إنها خاضعة لمتطلبات والحاضرين، معًا، باعتبار أنها صورة ينقلها خلف عن سلف لكل منهما ما يريده من العصر الجاهلي.. ومن المؤكد أن المراد لم يكن واحدًا.
لنتساءل إذن كيف ومتى بدأ وعي العرب ينتج صورة، أو صورًا، لما نسميه: العصر
الجاهلي؟
لا حاجة بنا هنا إلى إثقال القارئ بالمعلومات التاريخية، المتداولة الآن وقبل الآن بكثرة. فقد كان الإسلام وبالخصوص بعد الهجرة، يعبر فعلا عن تجاوز وضعية لم تعد قائمة، لا لأنها كانت قد تقادم العهد بها بل لأنها كانت غير مرغوب فيها ولا في استرجاع ذكرياتها. إن الفتوحات العظيمة التي حققها عرب الجزيرة في عهد الخلفاء الأربعة جعلهم يشعرون ويتأكدون يومًا بعد يوم، أنهم خرجوا بالفعل من: الظلمات إلى النور، في كل مجال وعلى جميع المستويات.
وقد لا نكون مبالغين إذا قلنا أن العرب كانوا في عهد أبي بكر وعمر على الأقل، يحاربون صورة الماضي الجاهلي في وعيهم بكل عنف وبمختلف آليات الكبت المعروفة. إن ما قبل الإسلام، بالنسبة إليهم كان يمثل «ما قبل التاريخ».. تاريخهم.
وليس من المصادفة في شيء أن يختار عمر بن الخطاب يوم هجرة الرسول إلى المدينة ليجعله بداية للتاريخ العربي، بل لكل «تاريخ».
1981*
* باحث وأكاديمي مغربي «1935 - 2010».