عين الحب عمياء..
القرد في عين أمه غزال..
أحب حبيبي وإن يكن عبدًا أسود.
هذه أقوال عرفتها العربية، فصيحها وعاميها، منذ أقدم الأزمان، ولها ما يماثلها في جميع لغات الأرض، ومغزاها يكاد يكون واحدًا، وهو أن الحب يعمي المحب عن كل سيئة في محبوبه، بل إنه يقلب السيئة حسنة، والبشاعة جمالاً.
وهل ذلك من العمى في شيء؟ إنه السحر بعينه، وإنه النور الذي يبدد الظلمات؛ فهو أبعد ما يكون عن العمى، كما نفهم العمى، وأجدر ما يكون بالدهشة التي تثيرها الخوارق لا بالشفقة التي يبعثها فينا منظر كفيف يستدل على طريقه بعصاه.
والعمى أنواع، أبرزها اثنان: فعمى يحجب النور، وعمى يحجب الظلمة، وعمى الحب من النوع الأخير الذي يحجب النقائص.
من بين كل العواطف التي يختلج بها القلب البشري ليس عاطفة أنبل وأسمى وأقوى من الحب.. إنها العاطفة التي تخرج العجائب، فنحن لو جندنا كل ما في الإنسان من ذكاء وعبقرية ودهاء لما استطعنا أن نخلق من القرد غزالاً، أما الحب إذا ما تربع في القلب وبثّ أنفاسه في نياطه وشغافه، استطاع في أقل من طرفة عين أن يعبث بالناس وتقاليدهم وبالطبيعة وسننها على هواه؛ فالعليل يبرأ، والقبيح يجمل، والضعيف يقوى، والقصي يدنو، والخشن ينعم، والقاسي يلين، والمحدود يغدو بغير حدود.. وإذا الأبدية لمحة واللمحة أبدية.
وإذا الفضاء بكل ما فيه سرير دافئ وثير، فالزمان والمكان كلاهما عبد طيع للحب ومطية ذلول، إن سحر الحب يفوق كل سحر، وكيمياؤه أين منها كيمياء الأنابيق والغازات في المختبرات؟ أوليس أن الناس حاولوا، وما زالوا يحاولون، تحويل المعادن الرخيصة إلى معادن ثمينة؟ ولكنهم ما أفلحوا حتى اليوم، أما الحب فما انفك منذ أن كان الناس، يجعل من الصعاليك ملوكًا، ومن الشياطين ملائكة، ومن الأنذال أبطالاً، ومن سلالة آدم وحواء آلهة خليقين بالتسبيح والعبادة، ومن ذا غير الحب يستطيع أن يسمو بالإنسان إلى حد أن يجعله يخاطب إنسانًا نظيره بمثل هذه الكلمات: يا «روحي» و«يا حياتي» و«يا نور عيني» و«يا معبودي» وما شاكلها؟
إنما الحب وحده -تباركت كيمياؤه- يملك السر في تحويل الإنسان إلى ما فوق الإنسان، والحب وحده -تبارك سحره- يملك المفتاح إلى قدس أقداس السعادة التي ينشدها الكل، فلا يلمحون وجهها الإلهي إلا في لحظات نادرات هي من العمر زبدته ولبابه، وناره ونوره، وما تبقى فرغوة وقشور، وحطب ورماد.
نعم.. هو الحب يجلو بصائرنا وأبصارنا، وإذا بنا مرآة صافية تعكس المحبوب صافيًا، وإذا المحبوب أكثر من عظم ولحم ودم، وأكثر من بشر يعقل وينطق ويأكل ويشرب ويشتهي أشياء ويهرب من أشياء، وإذا به فتنة وروعة وجلال وطعام وشراب لا تستقيم لنا بدونها حياة، فهو الكيان المتمم لكياننا، هو الحياة في حياتنا، والرجاء في رجائنا، والإيمان في إيماننا، به نكتمل ونخلص، وبدونه نبقى ناقصين ونهلك، به نحيا وبدونه نموت.. به الوجود حلاوة وهناءة، وبدونه حسك وحنظل. إلا أن الحب لا يدوم، فما إن يشرق حتى يغرب، وما إن يحل في القلب حتى يرتحل، فيمضي وكأنه الطيف في المنام، وتأتي اليقظة فلا يبقى من الحب غير الذكرى، وإذا المحبوب عظم ولحم ودم تتحكم فيها الشهوات البشرية بعديد أصنافها فانا تسوقها شرقًا وآونة غربًا، وإذا نحن نبصر في المحبوب أكثر من نقص واحد وأكثر من سيئة واحدة.
ففي مشيته وفي حديثه وفي هندامه وفي كل حركة من حركاته أشياء يمجها ذوقنا وتنفر منها أذننا وتمتعض عيننا وينكمش قلبنا وهو، إلى ذلك، يكثر من شكواه منا، فكلانا يشكو صاحبه، أبصرناه خاليًا من النقص ما أبصرنا غير وهم؟ أم ترى العين التي أبصرنا بها ونحن في ذروة الحب كانت رمداء وعمياء، فما أبصرناه على حقيقته؟
وبعبارة أخرى؛ أي العينين أحرى بالتصديق: عين تحصن الحب في إنسانها وأجفانها، فما تبصر غير الجمال؟ أم عين هجر الحب إنسانها وأجفانها فلا تبصر غير الشناعة؟ أو أنها لا تلمح الجمال حتى تلمح بجانبه الشناعة؟ فقاموسها أوله لولا «وآخره يا ليت».
إن جوابي لا يحتمل الشك ولا التأويل؛ فالناس في عقيدتي عميان إلا متى أحبوا حبًا لا شرك فيه ولا التواء، فهم إذ ذاك مبصرون، أما أن حبهم لا يقيم العمر، ولا يتألق حتى يخبو فالذنب في ذلك ذنبهم، والحب منه براء، ذلك لأن الحب سيد مطلق لا يطيق فوق سيادته سيادة، فهو يقود ولا يقاد، ويسوق ولا يساق، ويأمر ولا يأتمر؛ ولأنه سيد الزمان والمكان تراه إذا احتل قلبًا ولو لحظة أو لحظات قصيرات جعله أفسح من الأرض والسماء، وأعتق من الأزل، وأفتى من الأبد، هو الطريق والدليل، وهو الغاية والواسطة والبداية والنهاية.
إلا أن الناس أطفال عابثون، فما يكاد واحدهم يحس دبيب الحب في دمه حتى يروح يعبث بالحب، فحينًا يسخره لشهوات لحمه ودمه، وحينًا يحاول حبسه في أقفاص غاياته الأرضية والزمنية؛ فهو يريده سلاحًا للثأر أو وسيلة إلى الجاه والسلطان، أو متعة لساعات القيلولة من التنكيل بالمخلوقات ثم يعجب للحب كيف تبخر ومن أين أفلت وطار، ويخيل إليه أن ما كان لم يكن، وأن حلاوة سماوية تذوقها ما كانت غير حلاوة يتذوقها حالم في حلمه، وأن الحياة حقيقة قاسية نهايتها الخيبة لا الحظوة.
ويا ليت الذين يندبون حبهم الطاعن وخيبتهم المقيمة يفتشون قلوبهم وأفكارهم ويغربلون نياتهم وأعمالهم إذن؛ لأدركوا أن الحب ما ارتحل عنهم إلا لأنهم ما أحسنوا فهمه والامتثال له.
1966*
* كاتب وأديب لبناني «1889 - 1988».