والوجوب لا يختلف عنده كذلك فلا فرق بين وجوب الكفارة على من حنث في يمينه وبين زكاة الفطر في كلا الأمرين، مع أن الأمر لو كان كذلك لأمرنا الله باتباع الرواة صريحًا، ولجُعلت لنا عقيدة بهم، ولأمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بكتابة سنته كي تصل لمن بعده، طالما أنها تشريع بهذا الحجم -وقد أتناول في مقالة لاحقة السبب الحقيقي لامتناعه عن الكتابة- ولكن لم يحدث ذلك لأنها في رتبة أقل من القرآن، وهذه الرتبة غير مفعّلة إلا في الإنكار والجحود، وأحيانًا الاجتهاد، أما في درجة الالتزام بها والتعالي فمتساويان، مع أن الفرق الحقيقي بينهما هو أن الرواية تؤخذ مع القيمة الإنسانية التي تدعمها -وهذا هو معنى الأخذ بها- ولا تؤخذ بذاتها.
فمثلا حينما جاءت الرواية بمنع البيع متفاضلا في الأموال الربوية الستة المعروفة لم يكن ذلك لمجرد التقابل الرقمي كما صوروا لنا، وإنما لمنع اتجار الأغنياء بالسلع الضرورية للناس، فإذا لم تعد ضرورية فإنه لا يمكن الأخذ بالرواية لذاتها بمعنى غيبي، وإنما لابد من قيمة إنسانية تردفها.
وكذلك الأمر في زكاة الفطر، ولبس الحرير للرجل، وبيع ما لا يملك، والنكاح بلا ولي، وغيرها من الأحكام الثابتة برواية، والتي يطول بنا المقام لو سردتها جميعها، فلابد أن تؤخذ جميعها بقِيم نستشفها وليس بحروفها، وأما العبادات كالأذكار بداخل الصلاة فجميعها ذات أصول قرآنيه تكفي للأخذ بها فهي أدعية موجودة هي أو جنسها في القرآن أو تسبيح، أو هي نفسها قرآن كقراءة الفاتحة خلف الإمام.
إننا بذلك نحول هذه الروايات المنسوبة إلى النبي إلى حكمة، والتي غيّب التركيز عليها على مدى القرون السابقة، خاصة وأنه ينسب إلى الشافعي أن الحكمة هي السنة، والحكمة بها ليست أوامرها المباشرة ولا حروفها، وإنما مضامينها الإنسانية التي يجب العمل بها بشكل دائم، وذلك بأن نستشف معنى إنساني لها، وإن أخطأنا في تقديره؛ لأن كشف المعاني الإنسانية ومراعاتها مطلب، لكن التشريع بالرواية لذاتها ليس بمطلب، وبهذه الطريقة نكون قد أعملنا السنة والحكمة في آن معًا، ونخفف من حجم التطرف الذي يعتمد في المقام الأول على أخبار الآحاد بمعانيها المنزوعة من قِيمها ومقاصدها معتمدًا على المعاني الحرفية لذاتها، ويخفف من المشقة والغرابة في كثير من الأحكام المتداولة اليوم.