شيء واحد غير موجود في كتاب «وداعا أيها الملل» هو ملل قارئه، فهو كتاب من بدأه أتمه، حتى أنا رغم احتجاجى على أنيس منصور، وطريقته الاستطرادية في الكتابة، وذبذبته الدائمة بين نافع الكلام وسفاسف الكلام، ما إن بدأته حتى أتممته. ذلك لأن أنيس منصور قد قرر منذ البداية، منذ بداية حياته لا منذ بداية الكتاب، أن يكون شيئا لامعا يتألق، حتى وهو يتدفق أمامك ببخس الهشيم تراه ينثر برادة الماس، لتشع تحت بصرك بين أكوام التبن وأكوام التراب، ولو جافي المنطق في تأملاته، ولو جافي الصدق في أحكامه.

وقد اكتشف أنيس منصور أحد القانونين العظيمين، اللذين يستطيع بهما الإنسان في كل زمان ومكان، أن يقول للملل وداعا، وهذا القانون هو قانون الحب. اكتشفه عند الشاعر ريلكه الذي

قال:


قل لي يا شاعر: ما الذي تفعله في هذه الدنيا ؟

إنني أحبها

وهذه الأشياء الكريهة الشريرة، كيف تحتملها وكيف وكيف

تقبلها ؟

إنني أحبها

وهذه الأشياء التى لا اسم لها ولا معنى، كيف تختار أسماءها

ومدلولاتها ؟

. إنني أحبها

وهذه النجوم البعيدة الهائلة، وهذه القوى الصامتة المخيفة في هذا الكون، كيف تعرف طريقها إليك ؟

إنني أحبها

فالذى يحب هو الذى لا يعرف الملل، وكلما ذاب المحب فيما يحب، بشرا كان أو مبدأ أو عملا أو سلوكا، أو قضية أو مصلحة أو وطنا أو قوما، خب على طريق الحياة بجياد راكضات، وانعدم من وجوده الزمن. وغير صحيح ما يقوله أنيس منصور: فأنا أحب وأنت تحب وشهريار الملك يحب، إذن لا أنا ولا أنت ولا هو سنعرف الملل» غير صحيح، فلو أن شهريار كان يحب جواريه لما قتل منهن جارية كل يوم، ولو كان شهريار يحب شهرزاد لما احتاجت إلى سرد قصة جديدة عليه كل ليلة، ألف ليلة وليلة، لتؤجل سأمه منها من يوم إلى يوم. وشهريار لم يذبح شهرزاد بعد ألف ليلة وليلة، لأنه ضبطها مع عبده الأسود، ولكن لأنه مل قصصها كما مل جسدها، وكما مل كل أجساد النساء. إن شهريار لم يعرف الحب وإنما عرف الخلو من الحب، وهو ظرف السأم.

أما القانون الآخر العظيم، الذى يستطيع به الإنسان أن يقهر الملل فهو البغض، وهذا ما لم يكتشفه أنيس منصور، وكلما كان البغض عظيما استوعب الوعى والزمن والحياة، لا فرق بينه وبين الحب في ذلك. فالبغض هو لون من الحب المعكوس. الحب العظيم يترجم إلى تخصيص الحياة للجهاد في سبيل شيء من الأشياء، والبغض العظيم يترجم إلى تخصيص الحياة للجهاد ضد شيء من الأشياء، وهذا هو معنى الالتزام والسأم، يبدأ حيث الخلو من الحب ومن البغض معا. وهذا هو الجحيم.

وإحساسي هو أن أنيس منصور في كتابه هذا، وفي أكثر ما يكتب، خال من الحب ومن البغض معا. وهو خال منهما لأنه غير قادر عليهما وغير راغب في تحمل مسئولياتهما، فللحب مسئوليات فادحة كما أن للبغض مسئوليات فادحة.

أما كيف خلا أنيس منصور من القدرة على الحب ومن القدرة على البغض، فهذا ما قد نجد تفسيره في فصلين من كتابه الجميل هذا هما «نحن أولاد الغجر»، الذى يروى فيه ذكرياته عن طفولته وصباه و «كرهت حبى» الذي لنا يشرح فيه حقيقة شعوره «بعبء» الحب، الذي تحمله أمه له ويحمله هو لأمه، وهما فصلان من أصدق وأروع ما قرأت، فصلان جدیران باعترافات جان جاك روسو، جاك روسو، فصلان يسجلان قوة الإنسان وضعف الإنسان ومأساة الإنسان، التي هي من قوته وضعفه معا. وحين يقول أنيس منصور: «ولم أسكن في خيمة أبدا، ولكنني لم أقتنع بعد أن البيت الذى اسكنه ليس في مهب الرياح، ولم أرَ الذئب أبدا، ولكن عواءه لم يفارق أذنى، والخوف منه لم يختف من أحلامى»، فهو يعبر عن إحساس عميق بقلق لا سبيل إلى استئصاله، إحساس عميق بعزلة أبدية مرضية، شبيهة بعزلة الشعراء الرومانسيين، في أوج شعور عميق بالعجز عن الاندماج والذوبان، أو حتى المشاركة بمختلف درجاتها، أو «الضيق من الدنيا»، فلا غرو إذن في أن أنيس منصور حين يلبس رداء الحكيم، ويقدم لقارئه: «فلسفة ما»، يسير على نهجها، نراه يصر على شيئين، أحدهما هو اللاارتباط، فعنده أن كل قيمة وكل موقف، كل شيء ينبغى أن يكون حكما إلى حد ما، وثانيهما هو إصراره على «المسافة» بين البشر، وهو وجه آخر من وجوه اللاارتباط، وهذا يفسر كيف بلغ أنيس منصور أنصع بيانه، عندما حدثنا عن قصة انتحار مارلين مونرو، التي أوجز فيها مأساة كل من يسكنون وحدهم من النابغين، كالنسور فوق القمم الباردة، وهو معنى نجده متكررا في كافة ما كتبه الأدباء الرومانسيون، ولا سيما في عصر «العاصفة والاندفاع، وفي قمة التشاؤم الرومانسي.

1970*

** ناقد وأكاديمي مصري «1915 - 1990».