من «عيوب اللغة»، أنها التي لا تستطيع التعبير عن الأفكار، إلا عبر الزمن أي بالتتابع. فمن واجبنا إذن أن نلتمس العذر لأولئك الذين يخاطبون مراسليهم، بمثل هذه العبارة: «إن القلم لا يطاوعني في التعبير عن مكنونات صدري، ذلك لأن»مكنونات الصدر«التي من هذا النوع تريد كلها الخروج دفعة واحدة، في حين اللغة تفرض عليها الخضوع لنوع من الترتيب والنظام».
من حسن حظنا أننا لسنا هنا إزاء أفكار من هذا النوع، الذي غالباً ما يتغذى بالعاطفة، بل نحن أمام أفكار تقبل بطبيعتها النظام والترتيب لأنها عقلية، أو لأنها العقل ذاته.
ناقشنا مشكلة التقدم في الفكر العربي، وتحدثنا عن العصور الثقافية العربية، وفي مقدمتها العصر الجاهلي، وكأننا قد حددنا بالضبط هوية تلك العصور، أو أننا فصلنا بشكل واضح في مسألة البداية، بداية تشكل بنية العقل العربي. هذا مع أن مسار الأمور من وجهة النظر التاريخية ربما يقتضي، في نظر البعض، الانطلاق من العصر الجاهلي، أولاً باعتبار أن بنية العقل العربي، كما حددناه، إنما تشكلت في العصر، أو على الأقل بدأت تتأسس داخله. إن هذا ليس صحيحاً من وجهة النظر التي نصدر عنها.
فالزمن الثقافي، كما أوضحنا ذلك من قبل، زمن خاص لا يخضع لمفهوم القبلية والبعدية، كما ينسحبان على الزمن الاجتماعي الطبيعي.
فلننظر إذن كيف ينبغي أن ترتب الأمور في وعينا، ولنبدأ بفحص صورة العصر الجاهلي
فيه.
أما أن يكون عرب الجزيرة العربية، يتوفرون على ثقافة معينة وبنية عقلية خاصة، تنتمي إلى هذه الثقافة، فهذا ما لا يمكن الشك فيه، إلا إذا أمكن الشك في وجودهم المادي نفسه.
وأما أن تكون الصورة التي لدينا نحن اليوم عن العصر الجاهلي - بوصفه زمناً ثقافياً وبنية عقلية خاصة - نسخة طبق الأصل للواقع الثقافي الفكري، الذي عاشه عرب الجزيرة العربية قبل الإسلام، فهذا ما لا بد لنا من مناقشته ووضعه موضع السؤال.
إننا لا نريد أن نطرح هنا مجدداً تلك القضية، التي أثارها طه حسين من قبل، قضية صحة أو عدم صحة الأدب الجاهلي، وبالتالي الموروث الثقافي، الذي ينسب إلى عرب ما قبل الإسلام. أن الشك في مثل هذه الأمور، يجب أن يكون في حدود وإلا فقد كل مبرر منهجي.
ذلك لأنه بإمكان «الوضاع»، أن يضعوا فعلاً بعض الأشعار، وينسبوها إلى من تقدمهم، ولكن من المستبعد تماماً أن يتناول الوضع شخصيات الماضي، وما ينسب إليها، في آن واحد.
وبعبارة أخرى: لكي تنسب أشعار إلى شعراء جاهليين، يجب أن يكون هناك بالفعل، ليس فقط «شعراء جاهليين»، بل أيضاً شعر جاهلي ينسج على منواله. فالتزوير من غير نموذج سابق غير ممكن.
وأما أن يكون الأدب الجاهلي، قد تعرض للوضع والبتر والإبراز والإهمال.. إلخ، فهذا ما لا شك فيه، وهذا ما لا يعنينا كثيراً في موضوعنا. إننا لن نناقش هنا معطيات العصر الجاهلي، بل نريد جلاء الصورة العامة التي لدينا عنه، الصورة التي تقدمها لنا عنه كتب التراث بمختلف أنواعها.
والواقع أن كتب التراث، وكذلك الدراسات الحديثة، تقدم لنا عن العصر الجاهلي هذا صورتين، وليس صورة واحدة:
- هناك من جهة الصورة التي تبدو وكأن كل وظيفتها تبرير وصف ذلك العصر بـ «الجاهلي» و«الجاهلية»، مصطلح إسلامي يقصد به ليس فقط الجهل، بمعنى عدم العلم وانتفاء المعرفة، بل أيضاً، ولربما كان هذا هو المقصود، ما يرافق الجهل وينتج عنه، أعني الفوضى وانعدام الوازع الجماعي سياسياً كان «الدولة» أو خلقياً «الدين». من هنا تشبيه الجاهلية بالظلمة والإسلام بالنور. فالظلمة أو الظلمات تعني هنا الفوضى والتطاحن وغياب أفق مستقبلى، كما تعنى الجهل وعدم تقدير المسؤولية، في حين أن النور يعني الوضوح في العلاقات والمسؤوليات.. وأيضاً وضوح الآفاق. هذا فضلا عن حلول النظام محل الفوضى والتضامن محل التطاحن... فهل حقق الإسلام بالفعل هذا التحول الجذري في حياة عرب الجاهلية؟
يتبع..
1981*
** باحث وأكاديمي مغربي «1935 - 2010».