الإعلام هو الأداة والقناة التي من خلالها يمكن تشكيل وتطويع وتغيير آراء الناس وأمزجتهم وذائقتهم وربما معتقداتهم وإيديولوجياتهم، ولهذا تنبهت الدول لحجم تأثير ذلك على الناس واختياراتهم والإسهام في تحولاتهم وتغيير أفكارهم، وعليه قامت الدول بفرض هيمنتها وسطوتها عبر هذه الوسيلة. وفي مرحلة الحرب الباردة بين القطبين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي) كان الإعلام هو أداة الحرب ووسيلته الناقلة والمؤثرة. ولعل انعكاس الهيمنة الأميركية – حالياً- على الشعوب وانتشار مد التأمرك صار واضحاً ومنعكساً على الأفراد في لبسهم وغذائهم وترفيههم. وصار النموذج الأميركي هو المهيمن والمسيطر على الذائقة العربية وغيرها في السلع الملبوسة والوجبات والمشروبات ونجوم الطرب والتمثيل.. وهذا كله بالطبع بسبب التدفق الإعلامي والإعلاني الذي يطرق المسامع والأبصار في كل حانة وحين.. هذا على الصعيد العالمي.

وأستطيع أن أرشح المرحلة الناصرية كنموذج للهيمنة العربية لبعض الأنظمة العربية الثورية من خلال هيمنة الإعلام المصري في حينها عبر إذاعة صوت العرب وإذاعة الشرق الأوسط ومن خلال سيطرة الذائقة المصرية تمثيلاً وطرباً وثقافة وفكراً على معظم الشعوب العربية. وفي الوقت الراهن نستطيع أن نقول إن الزمام صار بيد رؤوس الأموال الخليجية التي بطبيعتها المحافظة استعاضت عن تقديم نفسها بشكل مباشر إلى تبريز وتقديم أجندتها عبر الذائقة اللبنانية أو الشامية.

أريد أن أصل من خلال هذه التوطئة إلى الأثر الجسيم الذي يتركه الطرق الإعلامي المتوالي على المدى الطويل، لأصل إلى التأكيد على أن القنوات الإيرانية المتعددة التي تبث أفكارها وتنفث سمومها عبر القمرين (عرب سات) و(نايل سات) سيكون لها انعكاسها وتأثيرها دون شك على المشاهدين في القلة والكثرة بعد سنوات من موالاة البث.

إن الذهنية البشرية مطواعة للتأثر باستمرار الضخ والطرق عليها، والدليل على ذلك هو الأثر الذي يعكسه مثلاً حضور منظمة مارقة كالقاعدة وهي لا تملك في حدود التضييق عليها إلا الإنترنت وبعض الأستوديوهات البدائية لكن مادتها – مع ذلك- تجد لها حداً ولو محدوداً من المتابعين الذين ينتقلون بشكل متدرج متصاعد من مرحلة المتابعة بسبب الفضول إلى مرحلة الولاء والاتباع ثم الطاعة والتجند، ومن هنا تشكلت زمر المريدين المنضوين للقاعدة، فما بالك بأربعين قناة أو تزيد تتنوع أغراضها وبرامجها وساعات بثها، فكم من الفضوليين الذين يشاهدونها بدافع التشفي أو تزجية الوقت ثم يدخلون بعد حين مرحلة الحياد.. ثم في مرحلة تالية يتحولون إلى مرحلة الانحياز..

فقط انظر إلى بعض أسماء القنوات الفارسية وأثر ذلك لاحقاً على أبناء الطائفة الشيعية في البلاد العربية وربما، وهو الهدف الأبرز، أبناء الطائفة السنية العربية (قناة الفرقان، العهد، الهادي، الكوثر المعارف، السلام، أهل البيت، الزهراء، الغدير)، لكأن قائمة الأسماء من اختيار أحد الصحابة!! قائمة مليئة بالدلالات الدينية الصرفة التي تبرر النزاهة وتسوغ السلام وتقدم اليقين، كأنك في محراب العبادة أو صومعة التهجد، لكن واقعها خلاف كل ذلك، فهي عكس السلام وعكس الفرقان وعكس الهدى، بل إن واقعها يحرض على العداء ويكتظ بالشتم والنيل من الصحابة رضوان الله عليهم والتحريض على العداء وتكريس الطائفية وهتك السلام وإيغار الصدور ويخرق العهد الافتراضي للأخوة الإسلامية، وعليه فإن الدول العربية – والخليجية على وجه التحديد – والمملكة العربية السعودية والكويت على وجه الخصوص مدعوة للنظر إلى الأمر بحزم وجدية واستشراف أثر ذلك على المواطن العربي في العقد القادم أو ربما قبله، ولا بد من وقفة حازمة من مجلس جامعة الدول العربية مماثلة لوقفتها وقرارها فيما يخص وقف القنوات الفضائية السورية.

ولأنني مؤمن بمحدودية الأثر والفارق في التأثير الذي تتركه القنوات السورية لفرط ضعفها وبدائية أساليبها فإنني أرى أن الأولى بمجلس الجامعة الالتفات للقنوات الصفوية لعددها الكبير أولاً ولأجندتها الواضحة التي تستهدف الهيمنة والتأثير ولو بعد حين.

وأعلم أن الضغط على "عربسات" وحدها لا يكفي، لأن ذلك سيدع الساحة مفتوحة لقنوات النايل سات. ولأن الهدف الربحي هو وقود استمرار البث فإن على الدول العربية تخريج المسألة وحلها مادياً وهي القادرة في هذا الجانب، ويمكنها أمام الأضرار والانعكاسات المحتملة لاستمرار بث القنوات الإيرانية أن تتحمل الخسائر المحتملة، وخاصة المملكة العربية السعودية التي تبلغ حصتها 35% وحصة الكويت 26%.

لا بد لمجلس الجامعة العربية أن يوقف هذه الجناية بحق الشعوب العربية وبحق ما يحدث حيالها من تحريض طائفي مذهبي يشق اللحمة ويوسع رقعة التباعد بسبب الحقد الطائفي المستمر ليل نهار. ولا يصح أن توجه السهام في هذا الجانب لعرب سات وحدها فيما يتم إغفال النايل سات، كما أن القرار الفردي كما حدث من انسحاب البحرين من عرب سات لا يؤدي إلى نتيجة بل الحاجة ترتقي لمستوى الجماعة والجامعة في موقف عروبي وقومي موحد.