لم تكن الأقليات الدينية في الشرق الأوسط موضع اهتمام أكاديمي كبير، باستثناء الأعمال الكلاسيكيَّة للمؤرّخين عن المسيحيين واليهود في المنطقة، ومعظمها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وقد سيطر براديغم مهيمن على الأدبيات التي تناولها المبشرون الغربيون، والمغامرون، والمستشرقون الذين لعبوا دورًا معادلًا لدور الأنثربولوجيين والإثنولوجيين في القارة الأفريقية، ورسخ من تصويرهم من خلال المأساة والمعرفة بالصدمة. هذا ما يقرره الباحث (سعد سلوم) حين وجد أن على عاتقه مسؤولية للدعوة إلى تغيير البراديغم من خلال إعادة اكتشاف التنوع الغني في الشرق الأوسط، عبر كتابه (ديناميات الهوية) " نهاية وانبعاث التنوّع في الشرق الأوسط".

عودة الزرادشتية

يصدر الكتاب عن ( دار الرافدين) بمناسبة فوز المؤلف بجائزة ابن رشد للفكر الحر لعام 2022، وحول هذا ذكر سلوم: (ديناميات الهوية) معقدة للغاية ولا يمكن تبسيطها في رؤيَّة أحادية من دون مراعاة التبدلات والتحولات المستمرة في خريطة التنوع الديني والإثني واللغوي في المنطقة في ضوء الغزو الأمريكي للعراق 2003 وتحوّلات 2011 وصدمة داعش في سوريا والعراق 2014، ففي مقابل هجرة الأقليات من مصر وسوريا ولبنان والعراق، عادت أشكال وهويات قديمة كانت غائبة، ومثلما كانت داعش نتاجًا معقدًا لفشل الدولة مضفورًا بعوامل إقليمية ودولية، كذلك فإنَّ عودة الزرادشتية بعد غيابها أكثر من ألف وخمسمائة عام يؤشّر إلى مخرجات هذا الفشل وتطورت مطالب جديدة في سياقات متغيرة مثل مطالب الأرمن بالاعتراف بالإبادة الجماعية بعد مرور قرن على ارتكابها 1915 - 2015، ومساهمة البهائيين وحضورهم في المجال العام في العديد من دول المنطقة مثل تونس ومصر واليمن والعراق.


استثمار التنوع المجتمعي

وإذا كان ما عرف إعلاميًا بـ (التنمر) التوصيف الذي بات الأكثر تداولًا في كل مجتمعات الكون حين التطرق لأثر محتوى المنصات الإلكترونية، فإن سلوم لا يتردد في مقاربة (تطور خطابات الكراهية على نحو غير مسبوق في العصر الرقمي والأشكال الجديدة من وسائل الإعلام على الإنترنت على نحو وفّر أرضًا خصبة لنشر المحتوى المحرّض على الكراهية عبر منابر رقميَّة مختلفة، من الجماعات عالية التنظيم للتحريض والتي تجند الأتباع وتقنعهم بالتطرف وتوجههم للاعتداء على الجماعات المستهدفة؛ وإصدار قوائم الأهداف الداعية إلى العنف ضد الأفراد؛ وبث الدعاية والمعلومات المضللة والبريد الإلكتروني غير المرغوب فيه، وتبادل المعلومات والأفكار عبر شبكات التواصل الاجتماعي.

ويحدد سلوم ضحايا ما أنتجته تلك الخطابات: (وصلت ذروة تأثيرات هذه المتغيرات الجديدة في الإبادة الجماعية ضد الأقليات الدينيَّة في الشرق الأوسط على نحو ترك أثره على هوية مجتمعات المنطقة والعلاقة بين الأغلبية والأقليات).

فيما كرس القسم الثالث من الكتاب لتوضيح فكرة استثمار التنوع المجتمعي، وهي فكرة غابت عن تفكير النخب السياسية والثقافية العربية ما بعد الدولة الوطنية، وصولًا إلى تحولات العقد الأخير الذي كشف عن قوة التنوع المجتمعي وصلابته وأشكاله.

ثروة دائمة

يشجع الكتاب في القسم الرابع منه على توسيع دائرة الاعتراف بالتنوع وتوظيف ما يضمه من عناصر خلّاقة، حيث يخضع الاعتراف الرسمي بالتنوع الديني في العالم العربي، لتحكُم بُنْية ثقافية سائدة، تحصر قبول الآخر المختلف دينيًا في دائرة حصرية، هي دائرة الأديان الإبراهيمية أو التوحيدية.

ومن الواضح، أنها تضم أديانًا كبرى مثل اليهودية والمسيحية والإسلام وهي أديان تشترك في جَدٌ أعْلَى (النبي إبراهيم)، وتضم كتبًا مقدَّسة مثل التوراة والإنجيل والقرآن.

وتُحدد هذه الدائرة الحصرية السياق الثقافي والاجتماعي للتعامل مع الآخر.

وجاء هذا القسم - حسب سلوم - كمحاولة لتدارك مخاطر نهاية التنوع وتحفيز التفكير في خريطة أو خطة إنقاذ للتنوّع من خلال مسارات متعدّدة، وفضلًا عن الرغبة في تغير البراديغم المهمين عن التنوّع بوصفه مصدر تهديد وإعادة اكتشافه كعامل قوة ومصدر ثروة دائمة لبلدان المنطقة.

السوبرمان النيتشوي

يلفت الكتاب النظر إلى ظهور الزرادنشية في كردستان، ومحاولة تخليص زرادشت من إيرانيته بإعادة إنتاجه كنبي كردي، ذاكرًا أنها ديانة عمرها أكثر من 3500 عام تعود للظهور من جديد في شرق قلق، وكانت ديانة سائدة قبل أن يعرف الشرق الأوسط أديانه الثلاثة التي انتشرت عالميًا اليهودية، المسيحية، الإسلام، كما أثرت في تطور البوذية الـ«ماهايانية» قبل أن تخنقها التحوّلات الإمبراطورية. وقد وظف اليونانيون الحكيم " زرادشت» لإضفاء هيبة الحكمة الشرقية على تراثهم الفلسفي، كما فعلوا بالتراث الهندي وأعادوا إنتاج زرادشت كمعلم وأب روحي لفيثاغورس وبعض فلاسفة اليونان القدامي، مثلما اقتبسوا موسى والمسيح وأعادوا إنتاجهما على نحو جديد ونسب الفلاسفة الأوربيون في ما بعد، إلى هذه الديانة ومبادئها ونبيها، الآراء الفلسفية والدينيَّة والشخصيَّة، حتى أن نيتشه جعله يتكلم بلغته، قبل أن يتحوّل السوبرمان النيتشوي إلى داعش نازي مدمّر.

ويذهب المؤلف إلى أن (الظروف التي نجمت عن ظهور «داعش» وتهديده التنوع الديني، سهلت عودة أتباع الديانة الزرادشتية إلى الإعلان عن أنفسهم بعد أن اختفت ديانتهم عن الوجود مدة 15 قرنًا منذ دخول الإسلام العراق، ودخول أتباعها في الدين الجديد).

التحولات الاجتماعية

الأرمن بعد قرن من الإبادة الجماعية، لا يغيبون عن كتاب سلوم بعد أن أصبحت كل من السردية التركية والأرمنية موضع جدل ساخن، ففي حين يعيد الأرمن إحياء ذكرى الإبادة الجماعية التي ارتكبتها الإمبراطورية العثمانية، تفسّر تركيا الحدث أنه مجرد عارض للحرب كان فيه الضحايا عرضًا جانبيًا مؤسفًا لحرب أهلية شرسة، ولا تزال تركيا حتى يومنا هذا ترفض الاعتراف بالأحداث على أنَّها تشكل إبادة جماعية.

موضحًا أن التحولات الاجتماعية التي أحدثها تدمير العراق وسوريا على سبيل المثال، لها تأثيرها على حياة الأرمن في كلا البلدين، كما أن تأثير الإبادة الجماعية للأرمن ما يزال مستمرًا بالرغم من مرور أكثر من قرن على الإبادة الجماعية.

الدكتور سعد سلوم

 خبير في شؤون التنوع الديني ومنع الإبادة الجماعية

 أستاذ مساعد بكلية العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية

حاصل على دكتوراة في العلاقات الدوليَّة

من مؤسسي المجلس العراقي لحوار الأديان 2013

المركز الوطني لمواجهة خطابات الكراهية 2018.

يرأس مؤسسة مسارات المتخصصة بالتنوع وحوار الأديان والذاكرة الجماعية.

له 18 مؤلفًا عن شؤون التنوع المختلفة من أبرزها:

- الأقليات في العراق 2012

التنوع الخلاق 2013

مختلفون ومتساوون 2014

الوحدة في التنوع 2015

وسائل الإعلام العراقية وقضايا التنوّع الديني 2018

جوائز:

جائزة ستيفانوس الدولية/ أوسلو 2018

جائزة البطريركية الكلدانية 2019 عن كتابه (المسيحيون في العراق: التَّاريخ الشامل والتحديات الراهنة)

جائزة كامل شياع لثقافة التنوير

جائزة ابن رشد للفكر الحرّ 2022