لم يكن الطريق طويلا إلى «الأهرام»، بالرغم من زحام البشر والحجر والحفر، من باب اللوق -حيث أقيم- إلى ميدان طلعت حرب (سليمان باشا سابقًا)، لم يكن الطريق طويلا.

هذا مقهى «ريش» خال من أصحابه الحقيقيين، في الصباح ليسوا هنا، بالأمس كانت الأصوات تتداخل وتتهامس وتتشاجر وتتناغم، فلا تدرى أين ومن وكيف ومتى، إلا أنك على يقين سحرى بأن غدًا سيأتى ومعه رواية جديدة وقصيدة جديدة ونقد جديد.

أي أمس، وأى غد؟ منذ عشرين عامًا مضت كان هؤلاء الكهول الذين تراهم الآن يتوجعون من طموحات الشباب الذي لا يتحقق، أو التي لا تتحقق، طموحات تتمزق وتلتئم وتحزن فجأة وتفرح فجأة وتغضب دون مفاجأة.. تغضب دائمًا، مازال فرسان الستينيات في الساحة، بأعمالهم وإبداعاتهم ورصيدهم من الماضى القريب، ولكنهم أضحوا من الحكماء الأكثر صمتًا من الصمت.. قليلون هم الذين يرتفع صياحهم دون سابق إنذار، ولكنه صياح مبلل بدموع مكبوتة.


فرسان الستينيات كتبوا أفضل أعمالهم بعد عصرهم، السبعينيات والثمانينيات شهدت أفضل ما كتبه بهاء طاهر، وعبد الحكيم قاسم، وإبراهيم أصلان، وجمال الغيطانى، وجميل عطية ابراهيم، ويوسف القعيد، ومحمد البساطى، وعبدالرحمن الأبنودى، ومحمد عفيفى، وأحمد مطر، وأمل دنقل، ويحيى الطاهر عبدالله.. وأين محمود دياب، ونجيب سرور، وصلاح عبد الصبور؟ ليسوا من أبناء الجيل، ولكنهم من أبناء العصر.. المهزوم.

أدب يقول إن علاقة الإبداع بالواقع لیست مجرد انعکاس، بل إن هذا الانعكاس ما هو؟ الزمان الواحد والمكان الواحد والطبقة الواحدة والثقافة الواحدة، وربما الأسرة الواحدة، كل ذلك يثمر الظاهرة ونقيضها ينتج الخصب والعقم، البصيرة والعمى، الحساسية والبلادة، الموهبة والصناعة، فأى انعكاس معقد واية علاقة أكثر تعقيدًا بين الفن والواقع.. شيء ما تغير أشياء كثيرة تغيرت.

هكذا تقول «ريش»، وبعدها بقليل «الحاج مدبولى» أشهر بائع كتب فى الستينيات، أصبح من أشهر الناشرين الآن، ويحاولون اقتلاعه من «بدروم» فى عمارة قديمة، وهو الذي فضل استيراد ونشر وبيع الكتب، بينما فضل غيره فتح «البوتيكات» المزدانة بالملابس الداخلية الواردة من باريس.

وتلقى نظرة على عشرات، مئات الكتب، وتتوقف عند «وصف مصر» بلوحاته المعتقة الجمال، ينشرها مدبولى بعد أن عجزت الإدارت الثقافية المتعاقبة عن إنقاذ الأثر التاريخي من الضياع.

تقرأ الأسماء الوافدة من بطن مصر الحبلى دوما بالجديد، دون انقطاع، وماذا يهم اختلف معك أو مع غيرك هذا أو ذاك من المتوثبين للحياة فى أول لقاء معها، وربما معك، غيرك ماذا إذا كانت روايات وقصص وأشعار جديدة تلفح وجدانك بحرارة جديدة وتنطق فى أحشائك بلهجات جديدة وترى بعينيك رؤى جديدة؟ وماذا يهم إذا اختلف المبدعون الجدد مع السابقين من الكهول والشيوخ، ومعك أنت.

وما دام عبده جبير، وسعيد الكفراوى، والمنسي قنديل، ومحمود الورداني، وإبراهيم عبدالمجيد، ورفعت سلام، وحلمى سالم، وإسماعيل العادلى، وسهام بيومى، وسحر توفيق، وسلوى بكر، وغيرهم، يكتبون ويكتبون ويزرعون الحرف الجديد من طمى جديد، فماذا يهم إذا تناحروا أو تشاجروا أو تصارعوا أو تحالفوا أو تنادوا أو تنادموا؟، ولكن المقهى والرصيف والمنتدى وبار الفندق، يقولون إن ثمة شيئًا قد تغير، بل ربما أشياء عديدة قد تغيرت.

والطريق إلى «الأهرام» ليس طويلا.. تبحث في عيون السائرين نيامًا، وفى أصوات المهرولين كأنهم مطاردون من أشباح غير مرئية، عن «معنى» القصيدة التي غمضت عليك بالأمس، ومغزى اللوحة التي هربت خطوطها إلى مخيلتك وأنت تغرس ذاكرتك فى ألوانها، ومدلول النقد الذى راهنت على صواب المنطق في بنائه، فإذا بمواد البناء تخذلك حتى الإعياء.. تبحث وتبحث، ولا تعود تكلم نفسك، فأنت تقترب خطوات من المكان الذي عشت فيه من سنى عمرك أجملها وأعذبه وأقساها.. أنت الآن على موعد لم يحدث من قبل.. موعد قديم.. موعد كتبته بكيانك منذ أكثر من عشرين عامًا.. نعم، أكثر.

كنت لا تزال فى العشرين حين رحت تتردد على كازينو أوبرا صباح كل جمعة، لتلتقى بذلك الذي التقط وعيك الغض منذ سنوات، كان فى الخامسة والأربعين تقريبًا، يلتف حوله، حول ابتسامته وتواضعه وطيبته الأصيلة، مجموعة من الإشعاعات الصادقة والمواهب.. المزورة، فكان يجيد الاختيار، ولكنه يجيد المودة والمحبة الصافية. وتشرع في صحبته، تقر الإنسان والكلمات، وتزداد به ارتباطًا مع الأيام.. تغيب وراء الشمس وتعود فإذا به الرجل.. الرجل، لم تبدله الملمات، ولم تغيره اختبارات الزمن العتيد.

تبحث في عيون السائرين نيامًا وفى أصوات المهرولين كأنهم مطاردون من أشباح غير مرئية، عن معنى القصيدة التي غمضت عليك بالأمس، ومغزى اللوحة التي هربت خطوطها إلى مخيلتك وأنت تغرس ذاكرتك فى ألوانها، ومدلوله، النقد الذى راهنت على صواب المنطق في بنائه، فإذا بمواد البناء تخذلك حتى الإعياء.

تبحث وتبحث، ولا تعود تكلم نفسك، فأنت تقترب خطوات من المكان الذي عشت فيه من سني عمرك أجملها وأعذبه وأقساها.. أنت الآن على موعد لم يحدث من قبل.. موعد قديم.. موعد كتبته بكيانك منذ أكثر من عشرين عامًا.. نعم، أكثر.

وأصبحت في التاسعة والعشرين حين صدر لك المنتمي، أول كتاب عنه لم يكن نجيب محفوظ قد صار «مؤسسة»، ولا كانت رؤياه تطابق رؤياي، ولكن عمله الدؤوب الحنون المتصل العذب الجميل، كان الأعمق رسوخًا فى العقل والوجدان، كان الأقرب إلى «الشباب»، إلى جيلى كله -حينذاك- بتعبير أدق.. لأنه انخرط فى روح وجسد

المجتمع المصرى؛ ولأنه ناضل عن التراث الديمقراطى لمصر في وقت صعب.

والطريق إلى الأهرام ليس طويلا، فكانت قضية (الانتماء) هي المحور والمركز لأدب الكاتب الذي أحببته، وهى ذاتها قضية الجيل والوطن.

1984*

* ناقد وأكاديمي مصري «1935 - 1998».