يشهد الاقتصاد الرقمي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الذي ستصل قيمته إلى 40 مليار دولار بحلول عام 2030 وفقاً لآخر التوقعات، ازدهاراً متسارعاً يستوجب مزيداً من الخطط والاستراتيجيات الكفيلة بإنجاز المراحل المتقدمة للتحول الرقمي في المملكة، بتبني أحدث ما أنتجته صناعة الاتصالات وتقنية المعلومات التي أصبحت من المقومات الرئيسة لتطور أعمال وخدمات مختلف القطاعات والصناعات، وتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة. وأسهمت الاستثمارات المتزايدة في الاقتصاد الرقمي والتقنيات الحديثة والأمن السيبراني، في تنامي الاقتصاد القائم على المعرفة في منطقة الشرق الأوسط. وأشار تقرير نشره البنك الدولي مؤخراً إلى أن التحول الرقمي في المجال الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يمكنه الإسهام في زيادة الناتج المحلي الإجمالي لكل فرد، بنسبة تصل إلى 46% على مدار الـ30 عاماً المقبلة.

المنصات الرقمية المتطورة من المقومات الأساسية لإنجاح رحلة التحول الرقمي، حيث يمكن لتقنيات المعلومات الحديثة المساهمة في تعزيز كفاءة المؤسسات وبالتالي الخدمات المقدمة للمواطنين. كما يمكن للابتكارات الرقمية في مجالات الاتصال والحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي والحوسبة تغيير طريقة عمل المؤسسات وابتكار نماذج أعمال جديدة كفيلة بتوفير حلول وخدمات متطورة وسلسة ترتقي لتحقيق رؤية المملكة وجودة ومعايير العالم الرقمي الجديد الذي تتطلع لريادته.

وستؤدي التغيرات المتسارعة في تبني مزيد من التقنيات الرقمية والارتفاع الهائل في حجم البيانات المتداول إلى زيادة متطلبات البنية التحتية الرقمية، ما يستوجب تكثيف جهود إطلاق المرحلة التالية من نشر التقنيات المتطورة وفي مقدمتها الحوسبة السحابية والجيل الخامس ونسخته التالية المتمثلة بالجيل الخامس والنصف 5.5G الذي سيوفر قدرات جديدة مثل 10 جيجابت في الثانية ومئات المليارات من نقاط الاتصال تعزز الاعتماد على التقنيات الذكية وزمن استجابة أكبر بكثير من الأجيال السابقة.


يسهم التعاون بين القطاعين العام والخاص في تنمية النظام الإيكولوجي للاتصالات وتقنية المعلومات. وهو محور مهم تم تسليط الضوء عليه خلال زيارة الرئيس الصيني للمملكة مؤخراً وما شهدته من توقيع اتفاقيات تعاون تعزز العلاقات التاريخية والشراكة الإستراتيجية المتميزة ليس بين السعودية والصين فحسب، بل دول الخليج العربية والدول العربية بمبادرة من المملكة. ويبرز توقيع الاتفاقية الاستراتيجية مع شركة هواوي الصينية في مجال الحوسبة السحابية وبناء مجمعات عالية التقنية في المدن السعودية بأهمية خاصة نظراً لدور قدرات الحوسبة السحابية في مستقبل التعامل مع البيانات الضخمة وتمكين تطوير أعمال كل القطاعات والصناعات.

ويبدو أن المخاوف القديمة المتجددة التي تبديها الولايات المتحدة وحلفاؤها بشأن الأمن السيبراني لاستخدام تكنولوجيا الشركة الصينية، لم تعد تلقى صدىً قوياً داخل المجتمع التكنولوجي الدولي.

التكنولوجيا عالم تحكمه الحقائق العلمية والمعايير الدولية. ولتحقق الدول مكاسب تنموية بالاستناد لمزايا التقنيات الرقمية المتطورة التي تعتبر محوراً مهماً للاستراتيجيات والرؤى الوطنية، يجب التعامل مع التكنولوجيا بعيداً عن العوامل الجيوسياسية التي تضع حدوداً لآفاق الاستفادة من التكنولوجيا. وعديد من دول المنطقة التي تتطلع لتوظيف التقنيات الرقمية وآخرها الجيل الخامس والحوسبة السحابية لصالح مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية يمكنها الاستفادة من تجربة المملكة في التحول الرقمي وتعميم فوائد التقنيات الحديثة في رفع كفاءة الأعمال والخدمات من خلال بناء مزيد من علاقات الشراكة مع الصين والتعاون بين القطاعين العام والخاص.

المملكة الأردنية الهاشمية مثال حي على الدول التي تستهدف المضي قدماً في مسيرة الاعتماد على قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات لدعم رؤية التحول الرقمي للبلاد والتحديث الاقتصادي وفرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالاستفادة من الابتكارات التقنية المتطورة، وأعلنت مؤخراً عن نيتها لإطلاق شبكات الجيل الخامس في هذا الإطار. وقدمت الحكومة باقة تحفيزية واسعة النطاق لمشغلي الاتصالات لإنجاز هذا المشروع، لكن لم يتم الإعلان عن نهج تنفيذ مشروع الجيل الخامس بالشراكة مع الشركات الغربية فقط أو منح نصيب للشركات الصينية لتكون جزءاً من المشروع. وتفيد بعض التقارير الإعلامية بأن الأردن قد يحذو حذو النهج الأمريكي في التعامل الحذر مع الشركات الصينية وهواوي بالتحديد التي تمتلك النصيب الأكبر من أعمال شبكات المشغلين الثلاثة للاتصالات في الأردن، وأن الحكومة تنوي توفير تعويض للمشغلين الذين لن يعتمدوا على هواوي في مشروع إطلاق الجيل الخامس. ويتمثل ذلك في حزمة تسهيلات في مجال السياسات والتنظيمات ومنح طيف ترددي مجاني وتسهيلات ضريبية. وعلى ضوء هذه التحديات، قد يتأخر مشروع إطلاق الجيل الخامس عن الجدول المقرر له. لكن يبقى الخيار متاحاً أمام الأردن للاستفادة من قدرات الشركات العالمية المتخصصة ببناء شراكات استراتيجية وطيدة بين مع الشركات العالمية المتخصصة وتوفير بيئة عمل عادلة التنافسية لكل الأطراف كما فعلت المملكة العربية السعودية وغيرها من دول المنطقة والعالم، ما يتيح الفرصة أمام إطلاق الجيل الخامس وفقاً لأرقى المعايير الدولية والاستفادة من قدرات وميزات التكنولوجيا الحديثة للدفع بمزيد من الخدمات الرقمية المتطورة بسعر تنافسي للمواطنين.

مصر، العراق، لبنان، وعديد من دول المنطقة على مفترق طرق إطلاق شبكات الجيل الخامس ودفع عجلة التنمية بالاعتماد على التكنولوجيا. ومن الأكيد أننا نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى للتركيز على أولوية توفير الاتصال الآمن والحفاظ على خصوصية المستخدمين، لكن يبقى المحور الأهم بالنسبة للدول التي تنوي الاستفادة من الخبرات العالمية هو توفير بيئات استثمارية خصبة للشركاء الدوليين المتخصصين وإعطاء فرص للتنافس بناء على الجودة والسعر، بعيداً عن أي اعتبارات أخرى. ولعل الاستفادة من فرصة توسعة نطاق التحالف مع الصين التي عززتها المملكة العربية السعودية لكل الدول العربية من خلال اللقاء التاريخي السعودي العربي الصيني في الرياض هي المنصة الأمثل لتحقيق طموحات الدول العربية بالاستناد لتزايد نفوذ الصين التقني وريادتها العالمية في كثير من مجالات التكنولوجيا.