لم تدرك تلك الفتاة التي انشرح صدرها وصدر عائلتها حينما عثرت على وظيفة في أحد أشهر المحلات وفي وسط مول تجاري ضخم في الرياض إلا أمرا واحد: أنها تحولت من فتاة عاطلة عن العمل إلى فتاة تملك دخلا شهريا لها ولأسرتها، فرغم أنها لم تواصل الدراسة بعد المرحلة الثانوية، ورغم أنها التحقت بالكثير من الدورات السريعة في الحاسب الآلي واللغة الإنجليزية إلا أنها نزفت من عمرها قرابة أربع سنوات في انتظار وظيفة. لكن ذلك الانتظار انتهى، وهي تعمل الآن في أحد أشهر محلات بيع الملابس النسائية، تقول: هذا المول التجاري الضخم طالما تمنيت أن أدخله متسوقة متى أشاء، أنا الآن أعمل فيه ولدي مرتب شهري وأحظى بعلاقة جيدة مع زميلاتي، وباحترام من رؤسائي في العمل.
بالمقابل تأتي امرأة كبيرة في السن، طالما رأت في ذهاب بناتها إلى التسوق بمفردهن في محلات الملابس الداخلية حرجا بالغا لم تكن ترتضاه أبدا، وظلت تصر رغم مرضها على مرافقتهن دائما. بينما الآن تراجع إحساسها بالحرج والخوف على بناتها حين بات العاملون في تلك المحلات نساء مثلهن.
في الواقع لا النموذج الأول ولا النموذج الثاني يمكن تصنيفه فكريا؛ فلا العاملات في محلات الملابس النسائية يمكن وصفهن بالتغريبيات، ولا تلك المرأة التي ارتاحت للقرار يمكن وصفها بالليبرالية. لأن هذه الأوصاف خاصة بمن يقتتلون على تلك المعارك التنموية ويحولونها إلى مادة للصراع بين التيارات.
أريد أن أعترف أن ثمة خطأ في العنوان لأنه يضم جانبين غير متقابلين فالليبرالية ليست توجها أيديولوجيا بقدر ما هي طريقة تفكير يؤمن بها الإسلامي وغير الإسلامي، وكل إسلامي يسعى للدفاع عن حقوق المخالفين له وحقهم في إبداء الرأي وحقهم في المشاركة وكل من يؤمن بالتنوع والتعدد هو لا شك يحمل مسحة ليبرالية، مع أهمية الاعتراف أيضا أن هذا المفهوم قد تشوه للغاية، ولدرجة بات معها من الصعب محاولة إصلاح أو ترميم ذلك التشوه. ولذا باتت فرصة سانحة لكل من يريد الاعتراض على مشروع ما أو خيار ما من خيارات الناس أن يسميها ليبرالية أو تغريبية، ومع أن التغريب هو النسخة المتطورة للوصم بالليبرالية لأنه يمكن ربطه بالسلوك والمظاهر أكثر من الأفكار. فيصبح الابتعاث تغريبا وعمل المرأة تغريبا والإعلام والصحافة بوابات للتغريب وناقلة لأدواته.
تبدأ المعارك كالتالي: مجتمع كغيره من مجتمعات الدنيا يتطور ويتجاوز كثيرا من القضايا التي تجاوزتها غيره من المجتمعات المسلمة الموحدة، وبخاصة تلك التي يحدث فيها تداخل بين ما هو شرعي وما هو عرفي واجتماعي، والعرف الاجتماعي يميل غالبا إلى المحافظة والممانعة، لكن تطور الحياة يفرض كثيرا من التنوع ووجود طبقات اجتماعية تتغير مواقفها من بعض القضايا إما بتأثير العامل الاقتصادي أو بتأثير عوامل الانفتاح الطبيعية. وعلى الفور تهب الممانعة القادمة من العرف الاجتماعي لتجعل من كل تلك التحولات خطرا دينيا. المشكلة هنا أنها لا تستطيع أن تهاجم الناس، لأنهم هم مادة هذا التحول وهم صناعه والقائمون به، ولأن الهجوم على الناس معركة خاسرة، يتجه الهجوم نحو من يحملون أفكارا تدعم ذلك الانفتاح وتلك الموجات الجديدة من الانفتاح التنموي وتحث عليه وتدعو إلى تنظيمه وضبطه، أي الذين يمثلون الذراع النظري للتغيرات الاجتماعية. فمثلا لا أحد يهاجم النساء اللواتي توظفن في محلات الملابس النسائية ولا أحد يهاجم أسرهن، لكن الهجوم يتركز على من يكتبون ويتحدثون تنظيرا ودعما لتلك الفعاليات الجديدة.
هنا لا بد من القول بأن الخطأ قد يكون مشتركا أحيانا، فبعض من يتناولون تلك القضايا والمستجدات في الحياة السعودية يطرحونها من منظور صادم وفيه الكثير من المواجهة، وبدلا من أن يكون دورهم طمأنة المجتمع بأن هذه المستجدات في حياتهم لا تخدش شيئا من دينهم بل تعينهم على حياة أفضل، يتجه البعض لجعلها عناوين على إفلاس تيار معين وعلى خسارته وانهياره، وغالبا ما يأتي ذلك كردة فعل لحالة الممانعة التي تبالغ في الهجوم على من يتبنون تلك الأفكار ويدعون لتعميمها وضبطها.
إذن نحن أمام قضايا هي في الأصل موجهة للناس، هم من يقوم بها وهم من يستفيدون منها بل هم من يحتاجون إليها، لكن تلك القضايا تتحول إلى لعبة بين التيارات وقضية للصراع وللمعارك يقع تأثيرها السلبي غالبا على المزاج التنموي وعلى المؤسسات الحكومية الراعية لتلك الفعاليات. ذلك أن الممانعة انتقلت من هجومها على الأفكار إلى هجومها على القرارات، وتحول مجموعة من الوزراء والشخصيات الوطنية إلى هدف للهجوم والنعت بأوصاف التغريب والدعوات، وهو ما يشير إلى أن التدرج المستمر لتلك الممانعة سينتقل من طور مهاجمة السلوك المختلف وغير التقليدي لدى الأفراد إلى مهاجمة الأفكار التي ترحب بذلك السلوك، ليصل إلى مهاجمة المؤسسات المعنية بتنفيذه وإدارته.
على جميع التيارات أن تدرك أن وظيفتها تتوقف عند حدود الأفكار والأطروحات النظرية، أما وظيفة مؤسسات الدولة فتتمثل في إيجاد كل الخيارات المتاحة شرعا ونظاما للجميع، وسن القوانين التي تحمي حق الجميع في الاختيار، وبالتالي يصبح الهجوم على تلك الوزارات هجوما على فكرة الدولة الحديثة أصلا.