تطغى كورة القدم على غيرها من الألعاب الرياضية بشكل ملحوظ، سواء بكثرة متابعيها وجماهيرها أو بحجم هواتها ومحترفيها، أو حتى بعدد ما يشكله أفراد كل فريق فيها، علاوة على كونها من الألعاب الرياضية الشعبية منذ قديم الزمن وفي جميع أنحاء العالم، لبساطة محتواها والقدرة على توفير أدواتها وميدانها وأفرادها بسهولة، فانتشرت كرياضة وممارسة شعبية.

استهوت كرة القدم العالم، فكانت الرياضة الأولى والمحببة لأجيال مضت، وما زالت تعد اللعبة الأولى من حيث حجم هواتها ومحترفيها ومتابعيها، لذلك تعقد لها المسابقات، وتنظم لها المنافسات الوطنية والإقليمية والدولية على مدار العام، وفي ذلك إعداد أولي وتدريب مستمر للتأهل أو الاحتراف لمن يستهدف ذلك كنمط مهني أو مجال رياضي يستهوي الكثير من الشباب في مقتبل العمر.

تحتوي كرة القدم في فلسفتها وشيوعها الكثير من المعاني الإنسانية والأصول التربوية والأهداف النبيلة التي تُسهم في تهذيب النفوس والارتقاء بالسلوك في التعامل مع الآخرين، فيها فرصة للتدريب على روح العمل مع الفريق، فيها مجال للتعارف واللقاء ما بين أفراد قد تختلف ثقافاتهم وعاداتهم وأصولهم، بل وحتى انتماءاتهم ومذاهبهم ودينهم، فيها مجال لبناء وحدة بشرية متآلفة متآخية، ولتكوين فريق متجانس وأفراد متسامحين ومتفاهمين، فيها تضحية وإيثار وإخلاص ووفاء وصبر وتحمل، فيها تعاون ومشاركة نحو تحقيق أهداف مشتركة، فيها ترويض على الطاعة والانقياد والاحترام للتعليمات والقوانين المنُظِمة للعب ولخطة الفريق في الأداء.


يعتقد الكثيرون أن الحظ يلعب دورا كبيرا في كرة القدم وفي نتائج منافساتها، والحقيقة إن الحظ يؤثر بنسبة ضئيلة جداً في حسابات اللعبة ونتائجها، لأن المتابع يلاحظ أنها تستند إلى خطة إستراتيجية، يضعها المدرب وينفذها أفراد الفريق المناسبين على أرض الملعب، بعد تدريبهم وتأهيلهم لأداء أدوارهم، أما نجاح الخطة فيرتبط بممكنات شخصية وبدنية تسهم بدورها في جودة الأداء و تحقيق الأهداف المأمولة.

من الممكنات الشخصية هناك صفات ذهنية وعقلية وسلوكية تُسهم في تميز اللاعب، ومنها: الذكاء الفطري وحسن التصرف اللحظي، وتركيز الانتباه وسرعة البديهة، بالإضافة إلى السرعة في التفاعل والقدرة على التعاون المشترك لتحقيق الأهداف، لأن التعامل مع الفريق بروح الجماعة والعطاء المتميز؛ فن لا يدركه الكثيرون، أما الصفات البدنية فتتطلب قوة في التكوين الجسماني، ومرونة في الحركة واللياقة البدنية.

عندما نشارك ونتابع مباريات عالمية لا بد أن نستفيد من تلك اللقاءات الكبيرة بين الشعوب التي تمثل دولها، سواء فُرق تلعب أم جمهور يشجع، الاستفادة لا تعني نقصنا معرفة أو قدرات أو مهارات أو حتى تدريب، ولكن فيها استزادة من المعرفة الميدانية، بل وفرص حية ثمينة لقراءة وملامسة ومشاهدة كيف يفكر الآخرون وكيف يتصرفون في مواقف حرجة أحياناً، وبين تجمعات بشرية عالمية ترصد ما يتكلمون به وتراقب ما يعبرون عنه من مشاهد وأقوال وألفاظ، فنشاهد كيف يعالجون تحدياتهم وكيف يتعاملون مع الآخر المختلف، وكيف يتفاعلون مع الحدث وتطوراته وما يصاحبه من متغيرات وممارسات، بل وكيف يُحدِثّون كفرق ولاعبين خططهم وإستراتيجيتهم بعد معايشتهم للحدث وممارستهم العملية.

مباريات كأس العالم فيها التقاء مع حشود كبيرة تختلف في انتماءاتها وفي أعمارها ومؤهلاتها وثقافاتها، تجمع إنساني لشرائح متنوعة تمثل الشعوب بعفويتها وطبيعتها وعاداتها وسلوكها، هذه الشرائح تعطي صورة عن البلد الذي تنتمي إليه وتضع بصمة حضارية عن كينونته، فهي نموذج حي لمستوى أخلاقي وسلوكي يعكس هوية البلد الذي يمثله؛ وعليه فإننا جميعنا مسؤولون وملتزمون بتمثيل بلادنا وأمتنا بما تستحق من اللياقة والالتزام والاحترام بما نؤمن به من قيم وما نعتز به من ثقافة وهوية عربية مسلمة تمثلنا.

ما شهدناه ونشهده في مونديال قطر 2022 تظاهرة عالمية لن يتكرر مثلها إطلاقاً على مستوى العالم، ليس فقط من حيث إبداع التنظيم وجودة الإعداد وكرم الاستقبال وسخاء الوفادة والقدرة على احتواء الحدث؛ وإنما في ذلك التجمع البشري الرهيب لدول العالم المختلفة في تلك البقعة الصغيرة من العالم بكل معطياتها، والتي أتاحت الالتحام والاختلاط ما بين شعوب الدنيا في تظاهرة إنسانية مبهرة، لأن استضافة كأس العالم ما قبل قطر لم يحدث بتلك الصورة، بسبب اتساع مساحة الدول المضيفة، فيتوزع الجمهور ما بين مدن متباعدة فلا يحصل ذلك الاختلاط الجماعي والتعارف ما بين شعوب الأرض، أما ما بعد قطر فسيتوزع استضافة كأس العالم ما بين عدد من الدول المتجاورة أو القريبة من بعضها البعض.

على مدى سنوات وأجيال مضت، أثبتت كرة القدم أنها تتصدر الاهتمام والمتابعة والشعبية على مختلف المستويات، ما يدعو إلى بذل مزيد من الجهود والاهتمام المجتمعي والمؤسسي المدروس، نحو توفير ملاعب مجانية -أو بأسعار رمزية- مناسبة في جميع الأحياء في المدن والقرى، وأن تشمل في توفيرها ملاعب نسائية خاصة، بحيث يمكننا أن نتيح للإناث فرصة اللعب وممارسة رياضة بدنية مطلوبة وصحية، لامتصاص الطاقات واحتواء الهوايات وتوجيه المواهب وتنميتها.

استضافة السعودية لنهائيات كأس آسيا لكرة القدم للسيدات في 2026، تعد مواكبة طبيعية لما تشهده المملكة من قفزات تنموية شاملة، وستهيئ هذه الاستضافة آفاقاً جديدة لكرة القدم النسائية في السعودية وفي المنطقة العربية والآسيوية، وذلك بعد أن حققت التنمية تقدماً كبيراً في جميع مقوماتها ومتطلباتها المؤسسية والتشريعية في ضوء رؤية 2030.