تشير معظم المشاهدات إلى أن الإبل تمتاز بالميل إلى سماع الموسيقى، وقدرتها على تميز الأصوات، وعلى الأخص صوت راعيها، واستجابتها لإشاراته وهمساته.

وكان الغناء أهم وسائل تواصل الرعاة مع إبلهم، وأهم طرق التخاطب معها، حيث يحثونها على أن تسير أو تتبعهم أو تلتف حولهم.

وسمي هذا الغناء للإبل بالحِداء أو الحُداء.


وجعل العرب من أصواتهم وأوزان الشعر طريقة للتنغيم اللفظي والوزن الشعري الذي يؤثر على إبلهم، وشكل وسيلتهم لحثها ومدها بالطاقة، ولإيناس وحشتها في الفيافي المقفرة.

فن أصيل

ورد حداء الإبل في كتب تاريخية عدة، منها مروج الذهب لأبي الحسن علي بن الحسين المسعودي (توفي 346هـ- 957م) والعمدة لابن رشيق القيرواني (توفي 463هـ- 1063م)، ومقدمة ابن خلدون (توفي 808هـ - 1406م)، ما يؤكد عراقة هذا التراث وقدمه واستمراره وتناقله عبر الأجيال.

ويذكر المسعودي أن «غناء العرب كان النصب، وهو ينقسم إلى ثلاثة أجناس: الركباني:

(رُكبان: السوابق والأوائل. ركِبَ الدابة يركب ركوبًا: عَلا عليها، وكل ما عُلِيَ فقد ركب وارتكب).

والسناد الثقيل (السِّنَادُ في القافية: اختلافُ ما يراعى قبل الروي من الحركات وحروف المد، وهو من عيوب الشعرِ، الثَّقيل (في الموسيقى: ضرب الثقيل من النغم).

والهزج الخفيف (الهزج: صوت الإنسان فيه بحة، صوت السهم المنزلج من القوس، صوت القارئ المتطرب في القراءة، صوت المغني. الخَفِيفُ، أحد بحور الشعر الكثيرة الشيوع قديمًا وحديثًا ويؤسس الشطر منه على النحو التالي: فاعِلاتُن مُستفعِلُنْ فاعلاتُنْ)».

فيما يذهب ابن رشيق نحو مخالفة المسعودي الرأي، حيث قال إن النصب (النَّصْبُ: نوع من الغناءِ بسيط رقيق) كان غناء الركبان والفتيان، ومنه كان أصل الحداء كله.

أنس السفر

كثيرًا ما كان العربي يلجأ إلى الغناء والحداء لتبديد وحشة ليالي الصحراء، ووجد العربي أن إبله تطرب وتستجيب لحدائه، فيدب فيها الحماس، ولذا ارتبط الحداء يالإيقاعات والكلمات السهلة المقترنة بالحركة، ويروي كثيرون أن ذلك التناغم الإيقاعي الحركي ولّد عروض الشعر وبحوره التي تنبني على الموسيقى.

نقل شفهي

يتم في الحداء ترديد بيت من الشعر المغنى والمقفى، ينتهي كلا شطريه بقافية واحدة، ويحمل كل بيت معنى مغايرًا لما سبقه.

وتناقل الحداة هذا الفن شفهيًا وتوارثوه جيلًا بعد جيل، يؤديه الحادي بصوت عذب مرتفع، وينوّع به مدًا وقصرًا، ويشبع العُرب أو يقصرها حسب الحالة، وحسب ما يريد من الحداء.

مشاهير الحُداة

عرف كثير من الحداة بشهرتهم، وكان من أشهرهم سلام الحادي.

وكان سلام الحادي جميل الحداء حتى صار مضربًا للمثل في الحداء، ويقال إنه طلب من الخليفة العباسي المنصور أن يأمر جمّاليه بحجب إبلهم عن موارد المياه، وتعطيشها مدة طويلة، ومن ثم تساق إلى موارد المياه، معللًا طلبه هذا في إبراز مقدرته من خلال حدائه للإبل على أن يجعلها ترفع رؤوسها معرضة عن شرب الماء بالرغم من عطشها الشديد، وقد وافق المنصور على الأمر، حدا سلام بصوت رخيم:

ألا يا بانة الوادي بشاطئ نهر بغداد

شجاني فيك صياح طروب فوق مياد

يذكرني ترنمه ترنم رنة الشادي

إذا اسودت مثالثها فلا تذكر أخا الهادي

وإن جاءت بنغمتها نسينا نغمة الحادي

بلغ الحداء الإبل، فتركت الماء، وما كان من المنصور إلا أن أغدق عليه الهدايا.

طرائف الحدائين

تروى كثير من الحكايات عن الحداء والحدائين، حيث يقال إن أحدهم مر بشيخ من الأعراب فرأى عبدًا مقيدًا بالحديد، فسأل: ما الذي جناه هذا العبد؟ فقال الشيخ اتبعني ثم أخذه إلى مراح الإبل فرآها منهكة لا تستطيع حراكًا، فقال للعبد: غنِّ لها فغنى فنهضت لساعتها متحمسة كأن لم يكن بها شيء، ثم أكمل الشيخ: هذا العبد أتى بها من مكان بعيد، والإبل تحمل أثقالًا وأخذ يغني لها حتى رأيناها قد ضاعفت سيرها فصارت إلى هذا الحال من الإنهاك.