هناك اتجاهان معروفان لدى كثير من العلماء الذي بحثوا مسألة «هل الإنسانية تعني النقص أم أن هذه الإنسانية تعني الكمال»، ويعنون «الكمال الإنمائي» وليس «الكمال الاصطفائي» الذي اختص به الخالق بعضاً من عباده المرسلين كما قال تعالى «إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين»، وهي مسألة موغلة في عمق علم الفلسفة والمعرفة والوجود، مسألة تشغل عقل كل إنسان له موضع قدم في هذا الوجود، كل بحسب معرفته وعلمه وعمق ثقافته.

ولا شك أن كثيراً من النصوص الشرعية تنزع إلى أن الإنسانية تعني عدم الكمال، وذلك لأن الله، تعالى، قد قرر في محكم التنزيل، أن الإنسان مخلوق ضعيف في بداية خلقه، وما كانت بدايته قد خرجت من الضعف، فهو موصوف بالضعف والحاجة إلى القوة التي يستمدها من مبدعه وخالقه «يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً».

هذه حقيقة راسخة من خالقنا ومبدعنا بأن هذا الإنسان مهما ذهب في تطوره وفي تقنياته وفي ارتفاع المستوى المعيشي لحياته وخصوصاً في واقعنا المعاصر الذي أذهل العقول إذا ما قارنا هذا الحياة بما كانت عليه في القرون الماضية، فتلك القرون لم تكن تملك أي شيء مما نراه في حياتنا الآن التي نحيا ونعيش فيها، إلا أن هذا الإنسان ضعيف ولا يمكن أن يكون أقوى من القدرة الهائلة التي تدير دفة هذا الكون، فهذا التطور المهول والمذهل لا يعني أن الإنسان أصبح يمتلك الكون وهذه الحياة، فهذا الإنسان ينشأ ضعيفاً وينتهي ضعيفاً، فقد قال تعالى في موضع آخر من الكتاب الحكيم «الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوةً ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبةً يخلق ما يشاء وهو العليم القدير».


موضوع الضعف الإنساني حساس جداً فكلما أردت أن أتناوله يصدني ضعفي عن اقتحامه، فهو ظاهر ظهورا بيناً وواضحاً للعيان، بيد أن الإنسان بكبريائه وعنفوانه وتجبره وطغيانه يأبى إلا أن يطرح ضعفه ويقصيه جانباً ويخفيه حتى لا يعترف بهذه الحقيقة اليقينية التي لا مراء فيها ولا جدل، فعندما يبلغ الإنسان الخمسين ويقترب من الستين، تظهر بداخله حقيقة كانت غائبة عنه، وهي أنه كان ولا يزال وسوف يظل ضعيفاً بسيطاً غير قادر على فهم كثير من التعقيدات الكيماوية والفيزيائية التي بداخله، فضلاً عما يدور حوله من الأفلاك والأكوان.

الشعور بالضعف الإنساني من الحقائق اليقينية التي جعلها خالقنا ومبدعنا متساوقة مع ذواتنا كي تكون علامة وأمارة لنا أننا لن نبلغ ولو شيئاً بسيطاً من عظمة ما يدور من حولنا من إبداع رباني.

كذلك فإن الضعف الإنساني هو طريق حقيقي لإصلاح ما أفسده هذا الإنسان الغوي الذي يسعى للتجبر والانفلات من حقائق الخالق، بارتكابه الظلم لنفسه ثم للآخرين.

فلقد تمر فترات على هذا الإنسان الضعيف أنه قادر على تغيير هذا الكون وإصلاحه وتبديل كل ما فيه مما يراه أنه معيق لحركة الإصلاح والهداية من الغواية. وكانت تلك الفترات عادة ما تكون في زهو الشباب وعنفوانه وغروره، وهي فترات خطيرة جداً على حركة المجتمعات وأمنها واستقرارها، وخصوصاً إذا ما كانت فترات الزهو والغرور الشبابي قد صاحبتها تغذية وإمداد واستراتيجية مذهبية أو حركة سياسية أو فرقة دينية أو جماعة دعوية في ظاهرها وتخفي في باطنها أمراً سياساً للسيطرة على المجتمعات والعودة بها إلى ماض تليد تتصوره أدمغة وعقول شيوخ وأمراء تلك الجماعات والفرق الدينية، في إحياء المجتمع المدني الذي كان يعيش في المدينة المنورة قبل أربعة عشر قرناً أو يزيد، لأنها مؤمنة إيماناً راسخاً أنه لن يكون هناك إصلاح ولا تغيير لحياة الناس البائسة في هذا العصر التقني المتسارع في ربط جزئياته ودوله ومدنه مما لا يتخيله عقل بشر لم يكن موجوداً في عصرنا الحاضر إلا بالرجوع القهقرى لذلك الماضي السحيق. ففي هذه الآية حقيقة غائبة عن قادة كثير من الجماعات الدينية التي كانت تنزع نزوعاً يشوبه الإكراه إلى أن يفرض رؤية معينة على المجتمعات الإسلامية الهادئة، التي كانت متبعة للرؤية الإسلامية العامة التي كان المسلمون يتوارثونها من عدة قرون.

فقد قرر الخالق المبدع في بداية الآية قوله «يريد الله أن يخفف عنكم» أي بسهولة ما أمركم به وما نهاكم عنه، ثم مع حصول المشقة في بعض الشرائع أباح لكم ما تقتضيه حاجتكم، كالميتة والدم ونحوهما للمضطر، وكتزوج الأمة للحر بتلك الشروط السابقة، وذلك لرحمته التامة وإحسانه الشامل، وعلمه وحكمته بضعف الإنسان من جميع الوجوه، ضعف البنية، والإرادة، والعزيمة، والإيمان، والصبر، فناسب ذلك أن يخفف الله عنه، ما يضعف عنه وما لا يطيقه إيمانه وصبره وقوته، ثم عقب بعد ذلك بقوله تعالى «وخلق الإنسان ضعيفاً» أي لا يصبر على مشاق الطاعات، فكان من رحمة الله- تعالى- به أن خفف عنه في التكاليف. وهذا اليسر والتخفيف في التكاليف من أبرز مميزات الشريعة الإسلامية، وقد بين القرآن الكريم ذلك في كثير من آياته، ومن ذلك قوله- تعالى «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر». وقوله- تعالى- «ما جعل عليكم في الدين من حرج»، وقوله- تعالى- «ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم».

فلا شك أن الضعف الإنساني هو محور القوة التي يواجه بها كل فكرة تتمحور حول الخيال واللامعقول الذي يعشق تركيب الحياة الماضوية على واقعنا المعاصر دون عمق رؤية ولا مبالاة للفروق في الزمان والمكان والظروف التي تغير الأحكام والتصورات، والسعي الحثيث لتنزيل المقاصد الشرعية الكلية على تلك الوقائع والأحداث.