للأدب وقدة تلذع العقل، فتخل بتوازنه أو تكاد، ولا سيما عندما يكون الأديب في مراحله الأولى التي لا بد له من اجتيازها.

لكل أديب هذه المراحل الأولى لازمة لازبة، فإن كل شيء لا ينتهي إلى آخره إلا مجتازا بأوله، وإلا فكيف يكون له آخر؟ وقد اجتزت هذه المراحل. وأنفي في الرغام، وإن كنت وما أزال أعتقد أنى في أواخر هذه المراحل الأولى التي تجمع دائما بين السخف والغثاثة والثقل. وقد ناء بنفسه أن يعترف بذلك، ويريد أن يقول - بالفعل أو بالكلام - إنه أصبح الآن في رأس الذروة، ولكن ذلك لا يعنيني، فإنه ليس أحمق ولا أجهل ممن يغالط في الواقع الذي يكاد يفقأ عينيه.

وبعض أدبائنا الآن يحسب أنه تصدر القافلة لأنه نشر له ديوانا أو ألف كتابا، وهذا الحسبان يقوم على شيء كبير من الوهم والهوج وقصر النظر.


وما من سبيل إلى القياس «الصحيح» إذا كان كل أديب يتخذ لنفسه المقياس الذي يريده، ويذهب راكبا رأسه على غير طائل.

والمقياس الصحيح الذي توجبه أبسط بسائط [البداهة] أن يقاس الأثر - من نثر وشعر - بجودته ولذته وجدواه لا بكثرته أو قلته، فإن هناك أدباء مصريين وغير مصريين نشروا عشرات الكتب، ولكننا لو تصفحناها لوثبنا من الغلاف إلى الغلاف بنظرة واحدة.

وحيث تجد الأدب النزر تجد الاندفاع إلى تسلق الشهرة قبل أوانها، فهاك يا مطبعة، اخلطي البياض بالسواد وهاتي أوراقا مجموعة بين دفتين.. ثم إذا هي معلقة على واجهات المكتبات كأنها النشرات التي تقذف من الطائرات للإنذار والتخويف.

هذه الحالة مرت علي قبل سنوات عشر أو أكثر، فهيأت ما كان عندي من الشعر في أربعة داووين - أو اكواخ - وسميتها - ليحفظها الله - الأغاريد، وحادي العيس، وهدهد سليمان، والزبد - بفتح الزاي والباء لا الزبد بضم الزاي وسكون الباء - حتى لا يبادر القراء إلى لحس شفاههم.

جمعت هذه الأربعة الدواوين وكنت أستعجل النشر والطبع وأود لو طبعتها على.. طائرة ! ومضى زمان كنت أعتقد فيه أن الناس - ما أشقى الناس - سيصابون بخسارة عظمى إن لم يقرؤوا شعري وإن كان لم يبلغ بي الغرور المضحك إلى أن أصدر دواويني برسومي الجميلة !.

خفت صورة الجمر وبردت حرارتها. بل هبطت إلى ما تحت الصفر زمهريرا ولله الحمد، فاقتنعت على فترات أن كل ذلك باطل الأباطيل وقبض الريح كما يقال.

وأحرقت شعري وآثاري الأولى، وأرحت الناس ونفسي من شرها وركاكتها، فإن الناس لا يزدادون على ما بهم، فلعل الله يلطف بعباده.

واليوم يسألني كثير من الناس: لماذا لا أنشر شيئا من شعري وقصصي ؟ ويعتبون علي، وأنا لهم لمستعتب، لو كنت أملك أمري، وأجمع شملي، وأجازف بنشر حماقاتي عليهم؛ وإذا كانت الحماقة أعيت من يداويها كما يقول الشاعر: فإني قادر على مداواة حماقاتي بحبسها في نفسي وكتمانها عن غيري، وهو علاج بسيط، ولكنه لا يوجد في «صيدلية» كل أديب.

ولست أقول لمن يريد أن ينشر لا تنشر، فقد أصدروا ما عندهم، وانتهى الأمر، وبعضهم في الطريق إلى النشر.

ولكني متأكد أن بعضهم - أو كلهم - سيتأسف بعد سنين، ويقول - إن كان - حصيفا. أما إنها لرعونة. كيف صدر عني هذا الشيء ؟

1944*

** شاعر وأديب وصحافي سعودي

«1914 - 1993».