بنظرة فاحصة، شاملة، يتضح أن أغلب الأنظمة الديمقراطية لا تملك من الأركان ما يخولها ويمنحها الاستمرارية.

جُل الانقلابات على مدى التاريخ استهدفت أنظمة ديمقراطية. الاستقرار والثبات هو الحلقة المفقودة في ذلك الأسلوب السياسي. كيف لا، وهو الذي لا تضبطه موازين ثابتة، بل ويمنح المجال حتى للحمقى، أن يتصدروا المشهد، ويتزعموا دولا بشعوبها ومقدراتها. وهذا أحد أبرز مساوئ ذاك المنهج السياسي، والأحداث التاريخية تثبت ذلك.

وهذا النظام في شكله ناعم، وفي دواخله ودوائرi ملغوم. وقد انغرّ به كثير من الأدباء والمثقفين والشعراء العرب في عدد من التجارب الديمقراطية، ومهدت للبعض منهم بعد أن أصابه الغرور؛ لأن تنبري سهامه نحو الأنظمة الملكية، التي كثيرا ما نعتوها بالنقص تارةً، والتخلف تارةً أخرى.


فعلى سبيل المثال كان شعراء لا سيما «عرب الشمال» يصفون دول الخليج بـ«العربان» كنايةً عن البداوة النابعة من موروثها التاريخي. ومع الوقت تحولوا إلى لاهثين وراء العيش تحت سقف أي دولة من تلك الدول، بعد إثبات فشل تجارب دولهم الديمقراطية، التي جاءت بسياسة لا تتناسب معهم، ولا مع حكامهم، ولا حتى مع شعوبهم.

وبناءً على هذا القول يجدر بي طرح سؤال، هل تستحق التجربة السياسية في العراق – عراق صدام حسين – أن تصبح نموذجًا سياسيًا يمكن النظر له، أو يعتبر منهجًا يمكن السير وفق خطواته؟ حتمًا لا. وكذلك ينطبق الأمر على عراق نوري المالكي والميليشيات الشيعية في وقتٍ لاحق.

وهل يمكن أن تكون القماشة السياسية لحزب البعث في سوريا الأسد – الأب والابن – صورةً وردية يافعة، حرصت على التعليم وإنشاء جيل يحمل صورة الدولة الحضارية؟ طبعًا لا. لانشغال النظامين بجنازير الدبابات. ولا تبتعد عن ذلك مسيرة البشير في حكم السودان. وعلي عبدالله صالح في اليمن. والإخوان المسلمين في تونس ومصر. فكلها تجارب تتشابه في الفشل دون أدنى شك.

ومع مرور السنين المتلاحقة، والتجارب البائسة، أثبت «الخريف العربي» الذي اندلعت شرارته الأولى في تونس عام 2010، وانتقلت كرة النار لدولٍ مجاورة؛ أنه بلا جدوى، فقد فضح هشاشة الأنظمة الحاكمة في تلك الدول، والتي أصيب الكثير منها بالانهيار المفاجئ؛ وأكد أن الفوضى الشوارعية والهمجية القائمة على الهتافات والضجيج ليست هي الحل المجدي، ولا الوسيلة للبحث عن الاستقرار السياسي والاجتماعي. وذلك له تفسيران. ما هما؟ الأول: وجود الوجه غير المناسب في المكان غير المناسب. الآخر: تأثر الشعوب بالنماذج الغربية؛ التي تصور الديمقراطية بأنها المنقذ، وهذا فخ وقعت به كثير من دول العالم العربي، انتهى بفشل تطبيق هذا الشكل من النظام السياسي.

أعود لصلب موضوعي في العنوان، والذي كلفني شرحًا تفصيليًا أرهقني أكثر من الفكرة. فما أردت الحديث عنه هذا اليوم، هو علو كعب الأنظمة الملكية عن غيرها. والمجال غير متاح للمقارنة، إنما التجارب تفرض ذلك. المهم أن الجميع وهذا ليس سرًا، يعلم بالقطيعة التي حدثت بين المملكة العربية السعودية، ومملكة تايلند خلال العقود الماضية. والمساحة لا تسمح بمناقشة الأسباب، ليس من باب «التضليل أو التطبيل»، لا بل لتجاوز تلك المرحلة التي فرضتها حسن النوايا والرغبات الصادقة من الطرفين، وأفضت إلى فتح صفحة جديدة من التاريخ.

فقد كانت زيارة رئيس وزراء تايلند وزير الدفاع الجنرال برايوت تشان أوتشا في 25 يناير من هذا العام، اللبنة الأولى في إعادة العلاقات إلى طبيعتها، وهذا الأمر لا بد له أن يكون من دون رغبة سعودية. وذلك بطبيعة الحال كان له الأثر الكبير في التفكير في التسامي والترفع على الخلافات، التي أكل عليها الدهر وشرب.

ودون أدنى شك مهد ذلك اللقاء، لزيارة سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان أواخر الأسبوع الفائت للعاصمة التايلندية بانكوك، وهو ما نتج عنه فتح مجالات أرحب وأكثر من التعاون بين البلدين. إذ وصلت المملكتان لتفاهمات حول فرص التعاون في عديد من القطاعات، وإنشاء مجلس تنسيق سعودي – تايلندي، لتشجيع الاستثمار بين حكومتي البلدين.

قضيتي ليست كل ما سبق. فخلال زيارة سمو ولي العهد لبانكوك، التقطت صورة تجمع العائلة الملكية السعودية والتايلندية، صدر عقبها بيانٌ مشترك، يمكن وصفه بالمهذّب لأقصى درجة؛ احتوى على القول بأن «اللقاء بين العائلتين الملكيتين حدث تاريخي»، بعد التطبيع الكامل للعلاقات الدبلوماسية الثنائية بين البلدين.

ما أردت الوصول إليه هو أن الملكيات، أو الأنظمة الملكية، تتمتع بكثير من الحصافة في القول، والرصانة في التعامل، وكثير من الأخلاقيات التي تميزها عن غيرها من الأنظمة في هذا الكوكب؛ أولها التسامي عن الخلاف، وعدم الاقتراب من حدود الفجور في الخصومة، والترفّع عن سفاسف الأمور وصغائرها، وتجاوز المراحل والأحداث وفق منطق ومفهوم حسن النوايا حتى إن طال الأمد.

برأيي الشخصي، أن تلك ليست أنظمة سياسية، إنما مدارس حكم.

وبعيدًا عما أعرفه عن مدرسة حكم بلادي، انظروا لصورة العائلتين في بانكوك، ولا تقرأوا ما كتبت.