نزل الخبر على «أبو عبدالعزيز» نزول الصاعقة، فابنة عمه التي تزوجها منذ عام وأكثر هي أخته في الرضاعة، ولا بد من التفريق بينهما بحكم الشرع.

قصة تتكرر عشرات المرات في مجتمعاتنا التي كان يكثر فيها التساهل في أمر أن ترضع إحداهن رضيع الأخرى، لأسباب مبررة غالبًا، مثل وفاة الأم أو مرضها وعجزها عن الإرضاع، أو لأسباب عدة أخرى، ولأسباب غير مبررة نادرًا مثل مجرد اللهو أو حتى الرغبة في مزيد من التقارب بين الجهتين، أو حتى للتسلية.

ومع تحريم الزواج بين المحارم لقوله صلى الله عليه وسلم «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»، فإن الاستهانة بأمر الرضاع، وهو أمر بات يتراجع كثيرًا في الآونة الأخيرة خصوصًا مع وجود بدائل صناعية عن رضاع أمهات الآخرين، له كثير من المخاطر.


كما برزت في الآونة الأخيرة مشكلة أخرى، تتمثل بالمخاوف من استغلال هذا التحريم للتفريق بين الأزواج إذا كانت ظروفه مواتية أو تتمتع بإمكانية القبول.

وتنتشر قصص التفريق للرضاع في مختلف الأماكن، وكثيرًا ما تم التفريق بين أزواج بعد أن أثمر زواجهما عن أبناء وبنات، وإذا كان الشرع قد أقر مثل هذا الأمر في حال الثبوت وبموجب شهادة عادلة من رجل أو امرأة، إلا أن الأمر قد يحدث أحيانًا بشهادة غير صادقة.

أصل اجتماعي

يقول الشيخ عبدالرحمن بشير الهجلة، إمام وخطيب جامع الميزاني بالرياض، إن «الإسلام جعل المحرمية أصلا من أصول العلاقة الاجتماعية، وجعل لها ثلاثة أسباب:

1ـ النسب.

2ـ المصاهرة

3ـ الرضاعة.

وفي الصحيحين: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».

ومن المسائل المتعلقة بالرضاعة التفريق بين الزوجين بعد النكاح إذا ثبت الرضاع بينهما».

ويضيف «في العهد النبوي لم ترد مثل هذه الحادثة إلا في قصة عقبة بن الحارث رضي الله عنه، حيث قال: تزوجت امرأة، فجاءتنا امرأة سوداء فقالت أرضعتكما، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: تزوجت فلانة بنت فلان فجاءتنا امرأة سوداء فقالت لي إني قد ارضعتكما، وهي كاذبة، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيته من قبل وجهه، قلت: إنها كاذبة، قال: «كيف بها وقد زعمت أنها أرضعتكما، دعها عنك.

وقد ثبت التحريم بالرضاع بالكتاب والسنة والإجماع».

عن أبي سروعة -بكسر السين المهملة وفتحها- عقبة بن الحارث رضي الله عنه أنه تزوج ابنةً لأبي إهاب بن عزيز، فأتَتْه امرأةٌ فقالت: إني قد أرضَعتُ عقبةَ والتي قد تزوَّج بها، فقال لها عقبة: ما أعلم أنكِ أرضَعتِني ولا أخبَرتِني، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف وقد قيل؟!))، ففارَقَها عقبةُ، ونكَحتْ زوجًا غيره. رواه البخاري.

ويفسر العارفون «كيف وقد قيل» بأنها من باب الورع وترك الشبهات، وإعمالا لقوله صلى الله عليه وسلم «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».

أركان الرضاع المحرم

ولم يترك الشرع مسألة الرضاع على إطلاقها، بل وضع لها ثلاثة أركان لا بد من توفرها لتوفر التحريم، ويقول الشيخ الهجلة «للرضاع المحرم ثلاثة أركان:

الأول: المرضع وهي المرأة التي تولت الإرضاع.

الثاني: الرضيع وهو الطفل الذي وصل لبن هذه المرأة إلى جوفه بإرضاع أو إيجار عن طريق الحلق أو إسعاط من الأنف في الحولين.

الثالث: اللبن والعدد المحرم في الرضعات، والحنابلة حددوه بخمس رضعات أو أكثر».

ثبوت الرضاعة

يشير الشيخ الهجلة إلى أن ثبوت الرضاعة يكون وحسب اتفاق الفقهاء على أمرين:

الإقرار، وهو اعتراف الرجل والمرأة معا، أو أحدهما بوجود الرضاع المحرم بينهما بشرط الإمكان (كأن يكونا مثلا في نفس السن تقريبا، أو يكونا في مكان يحقق إمكانية رضاعهما).

والثاني البينة: وهي الشهادة والإخبار بالحقيقة في مجلس القضاء.

والراجح أن الرضاعة تثبت بشهادة امرأة واحدة، كما أن المرضعة إذا شهدت على الرضاع تقبل شهادتها لحديث عقبة.

ويقول «المعمول به في محاكم المملكة هو التفريق بين الزوجين إذا ثبتت الرضاعة بينهما عند القاضي، مع إلزام المرأة بالعدة، وثبوت نسبة الأولاد للزوجين، وإثبات التوارث بينهم.

ولا يقتصر التفريق بين الزوجين على الراضعين، وإنما يشمل الخال من الرضاعة والعم، والخالة من الرضاعة والعمة، وكل من تحرمه الرضاعة».

ويحذر الأمهات من موضوع التساهل في الإرضاع وضرورة تذكره، ويقول «من الواجب على الأمهات أن يكن حذرات ومدركات ومتذكرات جيدا لهذا الأمر، فقد يظن البعض أن الرضاعة أمر عادي، وكانوا يفعلونه في الماضي من قبيل المجاملة لإحدى الجارات أو القريبات، ولكنه للأسف قد تنتج أمور لا تحمد عاقبتها مع امتداد الزمن والنسيان، وهنا يكون الخاسر الأكبر هم الأبناء بعدما تكون المصيبة قد حلّت والأمر قد انقضى، وصار هناك زواج وأطفال لا ذنب لهم».

الإفساد والتفريق

اختتم الهجلة محذرًا من الكذب في شهادة الإرضاع أو محاولة اختلاقها، قائلا «على من أرادت إفساد أسرة كاملة وتشتيتها كاذبة لغرض في نفسها، فادعت أن فلانا رضع مع فلانة للتفريق بينهما أن تتقي الله، ولتخش عقابه، ولا تدري لعله يصيبها بسبب فعلها هذا عقوبة دنيوية تنغص عليها حياتها وتفسد عليها بيتها كما فعلت هي بالآخرين».

شرط العدالة

يرى الشيخ أحمد أبو عمار، أن موضوع الرضاع أحل في الشرع للظروف الطارئة، وأوضح «حرص الإسلام على حفظ الأنساب والأعراض، وجعل ذلك من الضروريات الخمس، ويسّر الشارع الحكيم وأحلّ موضوع الرضاع للظروف الطارئة التي قد تتعرض لها المرأة مثل الضعف الجسدي أو المرض، وأجاز لغيرها أن ترضع طفلها بمقابل أو بلا مقابل، لكنه رتّب على ذلك أحكامًا فثبت في الحديث أنه صلى الله عليه وآله قال «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»، ومن شروط ذلك الرضاع أن تكون خمس رضعات متتاليات مشبعات، وتكون في الرضاعة قبل الفطام، يعني في السنتين الأوليين من عمر الطفل، وقد يغيب هذا عن الأب والأم، ويُنسى موضوع الرضاع، وقد لا يُخبر الطفل حتى إذا كبر أن فلانة أرضعته، فيثبت هذا الرضاع كما ذكر الشيخ عبدالعزيز ابن باز -رحمه الله- بشهادة امرأة عدْل ثقة أو أكثر، فإن لم يتوفر فيها شرط العدالة فلا تثبت شهادتها، والرجل كذلك إن شهد تثبت شهادته بشرط العدالة».

اختلاف العدد

اختلف العلماء في عدد الرضعات التي يحصل بها التحريم، فذهب الحنفية والمالكية والحنابلة -في رواية- إلى حصول التحريم برضعة واحدة، وذهب الشافعية والحنابلة في الصحيح من المذهب إلى اشتراط خمس رضعات للتحريم.

وإذا حدث شك في الرضاع أو عدده لم يحصل التحريم، فقد قال ابن قدامة في المغني «إذا وقع الشك في وجود الرضاع أو في عدد الرضاع المحرم هل كملا أو لا لم يثبت التحريم، لأن الأصل عدمه، فلا تزول عن اليقين بالشك».

ويشترط أن تكون الرضعات متفرقات، قال ابن قدامة في المغني «والمرجع في معرفة الرضعة إلى العرف؛ لأن الشرع ورد بها مطلقًا ولم يحدّها بزمن ولا مقدار فدلّ ذلك على أنّه ردّهم إلى العرف، فإذا ارتضع الصبي وقطع قطعًا بينًا باختياره كان ذلك رضعة، فإذا عاد كانت رضعة أخرى».

ومع الحديث عن عدد الرضعات فإن كثيرين يذهبون إلى أن الأحوط هو ترك الزواج ممن ثبت حديث عن الرضاع بينهما لحصول التحريم بمطلق الرضاع، خصوصًا حين تكون ذاكرة امرأة واحدة فقط هي الحاسمة لعدد الرضعات.

زوجته خالته

أبو نواف، كان متزوجًا ولديه طفل، حين فوجئ بخبر مزلزل لم يخطر له على بال، فقد كان يعيش حياته بسعادة وهو يحتفل بقدوم مولوده الأول، وقال «دعاني والدي ووالدتي لحديث على انفراد، وأبلغاني أن زوجتي لم تعد تحلّ لي لأنها «خالتي أخت والدتي في الرضاعة»، حيث أكدت زوجة عمي أنها أرضعت والدتي عدة رضعات كاملة، وزوجتي ابنتها، وقد غفلت زوجة عمي دون قصد عن هذا الأمر، وعندما تذكرت أخبرتنا به».

ويضيف «لم أستوعب الأمر، وكنت مشتتًا ومذهولا، وطرأ في بالي ألف سؤال وسؤال، كيف ولماذا وماذا عليّ أن أفعل، وما هو ذنبنا أنا وزوجتي وطفلنا، لكن كان لا بد من التسليم بالأمر بعد أن ثبت شرعًا أن الطلاق هو الأمر الذي لا بد من حدوثه والحمد لله على كل حال».

زوجته أخته

في واقعة أخرى فوجئ أبو عبدالعزيز بخبر صادم عقب زواجه من ابنة عمه، فبعد أكثر بقليل من عام على زواجهما، قال «فوجئت بقدوم والدي وأحد أعمامي ليخبراني أن زوجتي ابنة عمي هي أختي من الرضاع، باعتراف كامل من زوجة عمي التي عادت بها الذاكرة للوراء وتذكرت أنها أرضعتني، وبهذا فإن ابنتها هي أختي من الرضاع، وبات لزامًا أن أطلق زوجتي.. كان وقع الخبر شديدًا عليّ وأثر على نفسيتي كثيرًا، حتى اعتزلت العالم لأيام، فلم أستوعب كيف لم تخبرنا زوجة عمي بهذا الأمر الذي يخصني ويخص ابنتها، وكيف غاب عن بالها أمر كهذا، لكن كان لا بد من التسليم بقضاء الله وقدره، فقد طلقت ابنة عمي متمنيًا لها التوفيق والسعادة بحياتها».

تفريق جديد

فوجئ يحيى بمن يبلغه أن زوجته هي أخته من الرضاع، بعدما أنجبا عددًا من الأبناء ذكورًا وإناثًا في واقعة كان لها صداها الكبير في مجتمعهما.

وبعد جدل كبير ثبت شرعًا أنها لم تعد تحلّ له لثبوت أنها أخته بالرضاع بعد شهادة الشهود.

وحول وضع الأولاد الذين كانوا ثمرة مثل هذا الزواج، سئل الشيخ العلامة عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- عن رجل تزوج بامرأة وأنجب منها أولادًا، ولكن علم بعد ذلك أنها أخته من الرضاع، وما حكم زواجه بها؟ وماذا في الأولاد الذين أنجبتهم منه؟، فأجاب «الأولاد أولاده، والاعتبار بالنكاح الشرعي الظاهر، وليس عليه في هذا إثم ولا حرج إذا كانوا ما قصروا ولا فرّطوا، لكونهم علموا بعد ذلك أنها أخته من الرضاعة، لا يضرّهم، الأولاد أولاده، وليس عليهم إثم ما داما لم يعلما إلا بعد ذلك، الحمد لله، والله جلَّ وعلا لا يُؤاخذ بالجهالة، إنما يُؤاخذ بما تعمَّده الإنسان «رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا» [البقرة:286]، إذا كان ما تعمَّد الباطلَ فلا شيء عليه».

وسئل عن طلاقها، فقال رحمه الله «يبطل النكاح.. إذا علم أنها أخته بطل النكاح، لكن إذا طلَّقها طلقةً عن الشُّبهة طلَّقها طلقةً، إذا طلَّقها طلقةً يكون أحوط؛ خروجًا من الخلاف، يُطلِّقها طلقةً حتى يُعتمد عليها في تزويجها لغيره».