وتفاخر في القوة: إذا بلغ الفطامَ لنا صبيَّ / تخرُّ له الجبابر ساجدينا.
وأمثلة كثيرة لا على سبيل الحصر، وهي تتعارض في موضوعاتها، ولغتها، مع المهاجر الشعري (الهايكو) الذي يعرفه القارئ العربي بأنه ياباني، لكن للشاعر والباحث حيدر العبدلله له رأي آخر في أطروحته بعنوان (مُهاكاة ذي الرُّمة أطروحة في الهايكو العربي) الصادرة عن دار أدب في الرياض.
فللوهلة الأولى نظن أن الباحث يسعى لتأسيس قصيدة هايكو عربي من خلال المهاجر الياباني، لكن الأمر ليس كذلك، فالهايكو موجود في القصيدة العربية القديمة وتحديدًا عند ذي الرُّمة، فما خصوصية شعر هذا الشاعر؟ وما علاقاته بهايكو باشو؟
يرى المؤلف أن ذا الرمُّة كان هاكيًا عربيًا، فهو صاغ في شعره أزمة الهوية بعد لقائه بشعراء المدن، وهو البدوي، وبهذا هو يلتقي من أزمة الهوية اليابانية في النصف الثاني من القرن العشرين، فجاءت قصائد الهايكو تعبيرًا عن هذه الأزمة.
ويلتقي ذو الرُّمة أيضًا مع مصارعي السومو اليابانيين في منافحة عالية بالفحولة والبداوة وعنفها، ولم تكن إلا طارئة ومستعارة في شعره ــ كما يرى الباحث ــ كما أنها ــ البدواة ــ هي عودة إلى الفطرة الأولى وهرب من ملوثات النفس البشرية، فهي تصوف من نوع ما، ولهذا يؤكد العبدلله أن ذا الرُّمة شاعرٌ كان متصوفًا قبل التصوف وهاكيًا قبل الهايكو.
فهذه المقاربات السابقة تضعنا في جدلية هل كان ذو الرُّمة تابعًا أم مستقلًا؟ وهل كل شعره كان وفق نمط الهايكو؟
الشاعر العبدلله يثبت أن الهايكو العربي انطلق من واحة الصحراء العربية، كما انطلق هكاة اليابان من بركة باشو، وهذه الأخيرة «لحظة استبصار وكشف، وعرف باشو ــ مؤسس الهايكو الياباني ــ من خلالها أن الهايكو ينبثق من إجهاد الذهن بالأفكار الغريبة، وأن روعة الهايكو تكمن في محض عادّيته وبسطاته وتلقائيته» فيترجم لنا ذلك بقول باشو:
على غصن عارٍ
غرابٌ وحيد
عشية الخريف
بينما تحشو ورق الخيزران بالأرز
تنحني بإصبع خصلة شعرها.
ويقول ذو الرُّمة: لقد صار قلبي قابلًا كلّ صورة فمرعى لغزلان ودير راهب
أدينُ بدين الحبّ أنّى توجّهت ركائبه فالحب طبعي وإيماني
ما يمكن رصد ثمة اختلاف بين النموذجين السابقين وهذه مسألة طبيعية؛ بسبب اختلاف البيئة، والتجربة الشعرية، فالأول يتكئ على الفكرة، والتأمل، والمشهد المكثف، ويخلو من العاطفة، لكن الثاني يغرق فيها (أدين بدين الحب) والعواطف والأمل واليأس والحب والحرب ليست من موضوعات الهايكو ــ كما يرى العبدالله ــ فهكاة اليابان يهربون منها إلى مندوحة النيرفانا، وفناء الرغبات، مستعينين بالطبيعة ونقائها من النفس البشرية. وهذه هي معايير الهايكو، فهل يستطيع الشاعر العربي أن يخوضها؟ وماذا عن ذي الرُّمة، هل كل شعره كان في الهايكو؟ بحسب الأبيات السابقة الممزوجة بين التصوف المبكر والحب فهي ليست ضمن الهايكو ــ وفق ظني ــ أن شعرَ ذو الرُّمة لم يكن كلّه في الهايكو، ربما أغلبه.
الباحث يخصص في القسم الثاني من أطروحته لهكاة العرب عبر (انتولوجيا الهايكو الياباني الحقل والمدار) لعبدالقادر الجموسي، فكانت أولى المحاولات في العصر الحديث، للشاعر عزالدين المناصرة عام 1964 والشاعر السوري ستار المطلق حين زار اليابان.
ويرى العبدلله عند عرضه للعديد من النماذج الشعرية لشعراء عرب كالعراقي سعد حليم والسوري محمد الجراح، بعد تحليل نصوصهم الشعرية، أنها لا تمت للهايكو بصلة؛ فموضوعاتها في الحب، والمعاناة، والفراق، والحرب، ويخلص قائلًا: إذا أردنا للهايكو العربي أن يعمل ويضيء فلا بد له من مصباح ومشكاة وزجاجة، بالمصباح أقصد التصوف، والمشكاة الطبيعة، والزجاجة أعني الإيقاع. وهذه الثلاثية هي التي أسس عليها الباحث طروحاته في القسم الأخير التنظيري (التصوف، والطبيعة، والإيقاع).
فهل ينجح بها الشاعر العربي الذي ينوي ركوب أمواج الهايكو؟ بحسب اعتقادي أنها تكاد تكون مستحيلة، فمن جهة أن التصوف لم يكن عربيًا، وشعراؤه لم يكونوا عربًا كالشيرازي، والرومي، ولا ننسى ما فعله العباسيون بالحلاج الشاعر، كما أن الشخصية العربية بتكوينها عاطفية، والانفعال جزء مهم في تكوينها وهذا يبعدها عن معايير الهايكو، ولا ننسى أن الشعراء في عصرنا لم تشكل الطبيعة وتأملها سمة رئيسة في شعرهم، فهي رافقت الشعراء الرومانسيين، وكانت إحدى أجنحة الهروب من الواقع. كما أن المتلقي العربي الذي عاش على العاطفة، وقلق الأسئلة الوجودية في القصيدة، لا يستسيغ تلك التأملات في الطبيعة والتصوف. إن أطروحة العبدالله مغامرة شعرية دقيقة تحرّك السواكن في الشعر ونقده، ويمكن أن يقدم الشاعر الباحث طروحات أخرى لهايكو عربي يتوافق مع البيئة، والمجتمع، واللغة، وثلاثيته تكون جزئية صغيرة من جزئيات أخرى؛ ليصبح للهايكو هوية عربية بعيدة عن المهاجر الياباني.