إن كانَ درويشُ مشهورًا، فما الصيغة التي يتحدث بها مشهورٌ عن الشهرةِ؟ أم علينا أن نُعيدَ ترتيب مفهوم الشهرة فيكون درويش ليس مشهورًا؟ وذلك بتغيير ارتكاز المعنى من لفظ معرفة الذات، إلى معرفة الخطاب؛ لأنَّ القارئَ سيقع في مأزقٍ، صيغته: إما أن تكونَ كائنًا بأسرارٍ، ففضيحتك فُشوّ الأسرار، أو كائنًا بلا أسرار فتكون الشهرةُ هي فضيحتُك. أو لنا أن نقولَ: إنَّ الشهرةَ تنزع عن الكائنِ لباسَ الأسرار، فيظل بلا أسرار. وفي المعنيين تداخل. ومن ثم نحن أمامَ قضيّة تقول: (أشهرَ سلاحَه، ليُقتَلَ به)، فيكون القتلُ/الفضيحة، مُعادلًا موضوعيًا للشُهرةِ، بمعنى أنَّ المشهورَ مقتولٌ/مفضوحٌ بشكلٍ لازم، فأسراره في كل مكان ضرورةً، لأنها لا تنبع منه، ويتجلى هذا في المعنى الأول، وهو أنَّ الشهرةَ تكون مكانَ الأسرار بوصفها فضيحة/قتل. مما يَستعيد حكاية قابيل وهابيل، بوصفها فضيحة/قتل/شهرة. هذا المعنى يجعلُ من الشهرةِ ملازمةً للفضيحةِ، أو هي معنى جديد للفضيحة.
وبتتبّع معنى الشهرة، سنقفُ على خطٍّ يَشرَحُ كيفَ سارت الشهرةُ من وصفٍ ذاتي إلى خطابٍ يَقتل؛ لهذا مما يجدر -هنا- استعادة معنى عتيقًا للشُهرة، وهو المعنى الموصول بالحدثِ نفسه، أو بالأداةِ، أي كأن تقولَ العربُ: «هذا ثوبُ شُهرة»، ويراد به: «كل شيء يشهر به ويستشرفه الناس، كل إنسانٍ على قدره» أو كأن يُتركَ دخول مكة نهارًا، تفاديًا للشُهرةِ.
وفي سياقِ ذلك الزمن سنجدُ أنَّ هذا المعنى يؤدي إلى الكبرياء، الذي سيقتل صدقَ الفرد في ذاته، لهذا يُروى عن خالد الكلاعي -المتوفى سنة 103هـ- أنه إذا كبرت حَلقةُ درسِه قام مخافةَ الشُهرة، وكأنَّه لا يُريد أن يُقتَل. وكان تركيز الوعي -آنذاك- يأخذ طابعًا ذاتيًا، يتمثّل كمقولةٍ كاشفةٍ في قول أيوب السختياني: «ما صَدَقَ عبدٌ قطُّ، فَأَحَبَّ الشُّهرةَ» فالشهرةُ -هنا- معرفةٌ ذاتية؛ لكنَّ بذرةَ نقيضها موجودةٌ فيها، وهي أنَّ هذه المعرفة تُنتِج الخوفَ من فقدانِ الصدقِ مع الله، مما سيُدخله في دائرة الأنا العليا، وهذا الصدق سيتحول -في مرحلة الخطاب- إلى الصدق مع الذات الفردية، مما سيُدخله في دائرة الأنا الاجتماعية.
إلا أنَّ ثمةَ ازدواجية -لابدَّ من ذكرها- وهي ما أورده ابنُ سَلّام في طبقاتِ فحولِ الشُعراء حين قال: «عبيد بن الأبرص عَظِيم الشُّهْرَة وشعره مُضْطَرب ذَاهِب لَا أعرف لَهُ إِلَّا قَوْله: أقفر من أَهله ملحوبُ/فالقطّبيّات فالذنوب» حيث نلحظ أنه معروفٌ من حيث الاسم، ومجهولٌ من حيث الشِعْر، والمفارقة أنَّ ابنَ الأبرصَ عُدَّ من أصحابِ المعلقات، فَبمَ عُرِفَ عُبيد، إن كانَ شعره مجهولًا؟ هل يُعرفُ بالشعرِ كمفهومٍ، لكنَّ مصاديقَ هذا الشعر مجهولٌ، وما عُرف منه مضطرب؟ سنُركِّز على تعليقِ بيته -المذكور- على أستارِ الكعبة -بحسبِ الروايةِ التاريخية- مما يجعلنا نلمح معنى للشهرة خارج الذات الشاعرة هنا. وكأنَّ التعليقَ -هنا- فضيحة/قتل، حَوّلَ ذواتًا إلى كيانات تُعبّر بها وعنها الأنا الاجتماعية، إذ نحن هنا نستحضر وعيَ زمنِ ابنِ سلّام، في القرنين الثاني والثالث الهجريين.
وبعكس حكاية ابنِ الأبرص، نجد قولهم عن بعضِ الأحاديث والآثار: «صحيحٌ من حيث الشهرة، لا من حيث الإسناد»، وكأنَّ ثمة شهرة لقولٍ مفصولٍ عن قائليْه المجهولين، أو لنقُل: قتلَ قائليْه؛ حيث شهرته الاجتماعية تعطيه قبولا، بغض النظر عمّن رواه. وهذا يدخلنا إلى مفهوم التواتر وارتباطه بالشهرة، وقد يكون هاجس التواتر -حين صار للعرب كيانهم الناظم واسع الأفق- هو الخيط المُوصِل إلى أن يكونَ الخطابُ هو الحاكم على الذات، فنجد الرازي -مثلا في تفسيره مفاتيح الغيب- يحتجّ بعدم جواز قراءةٍ من القراءات بقوله: «لأنَّها لو كانَت من القرآن لوجبَ بُلوغُهَا في الشّهرةِ إلى حدِّ التَّوَاترِ».
لهذا سأستعيرُ من الغذّامي نظريتَه «تاء/تاء»؛ لأعقدَ الصلةَ بين وعي التواتر النظري، وتحولاته السلوكيّة. يُعبّر الغذامي عن نظريتِه قائلا: «كلما تتابع سلوكٌ ما عبرَ الأزمنة وتواترَ عبر الألسنة؛ اكتسبَ قوةً تغرسه في نظام السلوك مما يحوله لتصور ذهني عميق مما يجعله شبيهًا بالغريزة، ولكنها غريزة سلوكية تشبه الغرائز الجسدية».
لهذا فإنَّ التواتر وعلاقته بالشهرةِ يتحول إلى تَوتّر السلوك بتواتره، وذلك في تحولات الشهرة وتقاطعاتها الحداثية وما بعدها، في الوعي السائلِ في باطِنه، الصلبِ في ظاهره، أعني تلك التي تُشير إلى التكتلات الخطابية المحركةِ للفرد، كتطبيقات التواصل الاجتماعي مثلا؛ وقد جاءت مقولة عبدالله الجمعة: «أقف أمام المرآة في مسكنٍ لم أختر النزول فيه، وفي مدينة لم أرغب زيارتَها، وأنا أرتدي قميصًا لم أختر ارتداءَه. حتى أفكاري، أصبحت تمرّ بألف مُرشِّد قبل أن تجد طريقها إلى لساني، حذار أن يتحسّسَ منها المتابعون أو الشركات التي ترعاني» جاءت هذه المقولة كجملةٍ ثقافيةٍ كاشفةٍ لنسق الشهرة بوصفها قتلا، لكنه بسلاحِ الخطاب، لا الفرد.
وثمة جذرٌ أراه موصولا بهذه، هو اللحظة التي ثارَت فيها الكتابة على ثنائية كاتب/ناقد، ووحَّدتهُما، بالكاتبِ الفرد، ذلك الذي يسعى دومًا لرفضِ الأنا الاجتماعيةِ المحرّكة له.
والشهرةُ معنى من معاني الأنا الاجتماعية، وقد تكون الشهرةُ -بوصفها فضيحة/قتلًا- تطورًا؛ حيث حَلّت في الخطابِ بوصفه محركًا للتاريخ.
ومن هنا طرحَ درويشُ ثنائيةَ: (هامة وقامة)؛ فالهامةُ (معنى)، والقامة (مبنى)، فحين ينخفضُ المعنى تبقى السماءُ وجهةَ نظرٍ عامةٍ، وحين ينخفض المبنى يَصطدم به المارةُ والطيورُ المحلقة على ارتفاعٍ منخفض. إذ ليس للمشهور معناه، أو لنقل: ليس في بطنه معنى، بل معناه يُنتَج، بالشهرة نفسها. ومن ثمّ «تملي على لسانه المفردات الخاويات من المعنى والقصد»، لكن هل يمكن أن تخلو المفردات من المعنى والقصد؟ ربما حينَ تكون بلا ناظمٍ..، وهنا تأتي الشهرة لتنظم مفرداته بالقصد والمعنى.
الشهرة هنا ستكون هي التأويل الذي ينتصر به مجموع القراء/المتابعين/الشركات/الأرباح، والمراد أنَّ ثمة قراءاتٍ تتوارى حيث لم ينتصر تأويلُها، والانتصارُ يأتي من خلالِ القوة الاجتماعية، ووقوع الكاتب تحت أناها.