مصر الحبيبة صارت تضطرم وتغلي كالمرجل، فمنذ اشتعال الثورة وجذوتها تنتقل من مدينة إلى أخرى، ومن ميدان إلى ميدان، وصار الحال حالين، والشعب فريقين، والمرشحان الرئاسيان اثنين، وصار المواطن المصري والمشاهد العربي مثل مشجعي كرة القدم عليه أن يتأمل ثم عليه في النهاية أن يختار الانحياز لأحد الفريقين ومناصرته بالصوت.. والروح.. والدم.

بدأت المسألة من الثورة على نظام الرئيس السابق حسني مبارك فصار هناك من يؤيد إقصاء الرئيس وآخر يعارض، ثم قضي الأمر، وتنحى الرئيس، وتداعى القوم بين من يطالب بالقصاص منه وزمرته وبين من يرى أن إزاحته هي حقه من العقاب. وفي غمرة جلسات محاكمة الرئيس ومعاونيه وأبنائه كانت قوائم الترشح للرئاسة تتوالى.. فتحزب المصريون وصوتوا لمن يرونه الأقدر والأجدر لتلبية مطالبهم وتحقيق تطلعاتهم، حتى رست نتائج الجولة الأولى من الانتخابات على اختيارين لا ثالث لهما، فإما الإخوان وإما الفلول.. فليس أمامك إلا أن تستدعي النظام السابق مع محاولة تحسين أدائه وتجاوز تخبطاته وأغلاطه السابقة أو أن تغير البوصلة تماماً باتجاه مغاير ومزاج مختلف تماماً عن حكم العسكر الذي جثم على البلاد منذ أن قاد الضباط الأحرار ثورة يوليو 1952 على الملكية منذ ستين عاماً. وقد اقتطع حسني مبارك نصفها رئيساً للبلاد فيما تقاسم محمد نجيب وعبدالناصر والسادات نصفها الأول، ولم يعد لدى المصريين إلا أن يصطلحوا على أحمد شفيق أو محمد مرسي.. أي كما يقول عادل إمام في مسرحية مدرسة المشاغبين (يا تنتن.. يا تنتن).

لكن كان على المصريين قبل الوصول إلى المباراة النهائية بين هذين الفريقين على كأس الرئاسة مشاهدة مباراة أخرى في المحكمة، كان قوامها إعلان نتائج ما سمي بمحاكمة "القرن" التي حكمت بالمؤبد على رجل أمضى شطر عمره وأكثر سنينه نائباً للرئيس ثم رئيساً ثم في ذيل عمره سجيناً مؤبداً.

فيما تمت تبرئة ابنيه بالتقادم، وهو الحكم الذي أعاد الاضطراب وأشعل الهياج وأعاد الحشود المليونية إلى الميادين على نحو سيعيد البلطجة والفرعنة لدى الذين يجدون في غياب النظام وسيادة الفوضى فرصتهم سلباً ونهباً وترويعاً، ويزيد في الأمر أن البلاد تعيش حتى منتصف هذا الشهر الميلادي ما يمكن أن نسميه فراغاً رئاسياً سينعقد لواؤه لأحد الفريقين (شفيق أومرسي) خلال الأيام القادمة، وحتى ذلك الحين فإن مناصري ومؤيدي مبارك سيحشدون قواهم لتأييد إعادة صياغة النظام السابق من خلال تفويز أحمد شفيق.. فيما يجد الإخوان ومرشحهم محمد مرسي في هذه المحاكمة الفرصة السانحة لتجييش كل المعارضين لنتائجها وجعلها ورقة تصب في مصلحتهم، وهي بالفعل ستكسبهم هامشاً غير يسير من أولئك المستقلين أو الذين كانوا على الحياد وأحبطتهم قرارات المحكمة ليصوتوا لمرشح الإخوان خاصة مع ضيق الوقت الفاصل بين نتائج المحكمة ونتائج الاقتراع.

لكنني لو كنت من أنصار المؤامرة فإنني بالمقابل أرى أن الأحكام الصادره أول من أمس تم تفصيلها لتخفف على نحو متدرج من غلواء الرفض الشعبي وتحقق شيئا من الرضا بالمؤبد على حسني مبارك، وما سيخفف من تأثيره السلبي على حسني مبارك هو تبرئة ابنيه (علاء وجمال) ليتوليا من بعد زيارته ورعايته.. ولا أستبعد لاحقاً ترتيب تمثيلية محتملة وهي إثبات مرض الرئيس وعجزه عن البقاء في السجن ومحاولة الرأفة به من خلال تحريك قوى حقوق الإنسان ومراعاة شيخوخته وإخراجه إلى منزله تحت الإقامة الجبرية، وسيكون هذا الأمر مؤكداً في حال فوز الرفيق أحمد شفيق بمقعد الرئاسة الذي يتحقق من صلاحياته - كما أسمع – إصدار العفو العام مسوغاً ذلك بظروفه الصحية، وربما بإحياء بعض مناقبه خلال حرب أكتوبر وغيرها مما يمكن نبشه في تلافيف سنوات حكمه الثلاثين بما يكون شفيعاً وشفيقاً لإخراجه من السجن.

مصر رغم كل الفلول ورغم كل البلطجة ورغم كل الهياج ماضية إلى التغيير وصاعدة إلى الأعلى والأفضل إن شاء الله.