لأن الإنسان كائن تلقائي، فقابلياته لا تتفتح للاستقبال، ولا تتقد طاقاته للعطاء إلا باهتمامه التلقائي؛ وكلما كان الاهتمام التلقائي أشد توقدًا، صارت قابليات الإنسان أكثر تفتحًا، وباتت قدرات العطاء أشد تدفقًا.

اهتمامات الإنسان التلقائية العظيمة هي التي تُحرك تفكيره وسلوكه، وتُثير انتباهه وتُلهب نشاطه، إن نشاط الفرد الفكري والجسدي المُنسجم مع طبيعته التلقائية هو الأكثر فاعلية؛ وهذا لأن التواصل بين أجزاء الدماغ وبين العصبونات عن طريق النواقل العصبية والمشابك والدوائر الكهربائية، يكون في أعلى حالاته، إن إيقاظ عمليات الانتباه والتركيز والتذكر والاسترجاع يتطلب أسبقية الاهتمام الأصيل عميق الجذور، فبمقدار التكرار المصحوب بالرغبة والاهتمام التلقائي القوي المستغرق تتكون العادات، التي مع الوقت تَترسّخ وتتعمق وتزداد جاهزية.

وحين نُركز باهتمام شديد فإن الفص الأمامي الجبهي للدماغ يسيطر بإحكام على المخ، لمنعه من التشتت في أمور آخرى، وعندما تتآزر آلية التركيز العظيمة مع قابلية التعود تأتي النتائج عظيمة وخارقة، يبني الدماغ من المواد التي يتلقاها من الحواس، أنماط ذهنية معرفية، وكل نمط يتعمق ويَرْسخ وينمو بمقدار تكراره والعناية به؛ وبذلك تتكون لهذا النمط قوة تلقائية تُركز اهتمام الشخص بالمجال الذي يُمثل النمط، فينساب منه التفكير والسلوك انسيابًا تلقائيًا، والسر في ذلك إن الدماغ البشري يَنْشط، ويعمل وينساب على أساس الأنماط التي تكونت فيه، والروابط التي أنْبنتْ، والمسارات التي تحددت بتكرار الاستخدام.


إن الإبداع في كل المجالات هو ثمرة التوقد الداخلي الناتج عن الاهتمام التلقائي المستغرق، وكذلك حال الاكتشافات العلمية التأسيسية، فنشاط الإنسان الإبداعي يأتي استجابة لما يغلي في أعماقه، وهذا الغليان قد يكون بسبب عاطفة هوجاء تسيطر علي المبدع، أو قد يكون بسبب فكرة تستحوذ عليه.

فعندما تستحوذ على المبدع قضية أو موضوع، بسبب إهتمام تلقائي مستغرق، فإن هذا الاهتمام سيجعله ابتداء يبحث في القضية، وسيجعله هذا الاهتمام أيضًا يواصل البحث في القضية دون كلل، ونتيجة لذلك، فإن خافيته ستكتظ بالمعلومات ذات الصلة، وفي اللاوعي، سَتتفاعل هذه المعلومات وسَتتخمّر وتَمتزج، فيتكون منها مركب جديد، وبهذا يُومض الإبداع الذي يصير متهيئًا للانبثاق تلقائيًا، إن نظام تفكير المبدعين، نظام التفكير الفلسفي النقدي، هو الذي يجعل الاهتمام التلقائي المستغرق يتسبب في جمع المعلومات ذات العلاقة والأهمية، فلا يتخبط في مسعاه.

إن بداية شرارة الاهتمام التلقائي، التي قد تقود للعمل الإبداعي، قد تكون بسبب الإندهاش من شيء ما أو الانجذاب إليه، كذلك قد يكون المبدع مدفوعًا بحالة من الكَرب والهَم تجعله يندفع من أجل الفهم وإزالة كرب الحيرة؛ بالتعرف على الحقيقة أو باكتشاف ظاهرة مُلغزة، وقد يكون الرائد المبدع مندفعًا للاستقصاء والتحقق بسبب احتياج نفسي عميق أو بدافع الشغف بالمعرفة الموضوعية.

إن إلحاح الرغبة في المعرفة يضغط تلقائيًا باتجاه البحث، فالإبداع ما هو إلا نتاج الرغبة المُتأججة والقابليات المُكتظة؛ فالرغبة هي التي تُحرّك وتدفع، وهي ذات طبيعة إندفاع تلقائي، أما حب الاستطلاع فهو الدافع الحقيقي عند غالبية العظماء، فهم مدفوعون بتساؤلات مُؤرّقة عميقة، تنبع من أعماقهم، إن كل مادة العلم الطبيعي المسؤولة عن سيطرت الإنسان على العالم؛ قد نبعت من نشاطات استغرق فيها الإنسان لمجرد الرغبة في التسلية.

تتجلى تلقائية الإنسان أوضح ما تكون في تلقائية نشأة اللغة، وفي التعدّد التلقائي الهائل للغات، وفي

التنوع التلقائي غير المحدود لاختلافاتها، وفي تلقائية تطبع كل مولود باللغة المحيطة به، إن اللغة تنشأ تلقائيًا بدافع حاجة الناس إلى التواصل، فاللغة انبثاق تلقائي أنتجه ضغط الحلجة، وفتحته التجربة، وطوره الاستعمال، إن اللغة ظاهرة اجتماعية تلقائية البزوغ.

إن الأطفال الذين ينشأون في مجتمعات تتعدد فيها اللغات يكونون محظوظين بأن يتطبعوا تلقائيًا بكل ما تعج به البيئة من لغات متنوعة، في البداية يتطبع الأطفال باثنين من أهم ميزات اللغة، وهم: الإيقاع و التنغيم. الإيقاع هو الرّنات التي تمتلكها اللغة، أما التنغيم فهو لحن اللغة أو مسيقاها، إنه يُشير إلى الطريقة التي يرتفع بها الصوت وينخفض أثناء حديثنا، تشترك جميع اللغات، وعددهم ستة آلاف لغة، في عدة أمور: فهي جميعًا تتكون من جمل، وكلها تحوي الأسماء والأفعال، وجميعها تضم حروف علة وحروف صحيحة، وكلها تحوي الإيقاع والتنغيم.

بدأت اللغة في ذلك الزمن السحيق، كعلامات صوتية مادية منطوقة (الترميز)؛ كالعلامات التي تُميز شيء عن غيره، أو تُوضَع كعلامات للاتجاه، أو لتحديد مكان، أو كمعالم لطريق، ولكن ما إن أنشأ الإنسان العلامات حتى باتت العلامات تتحكم به، حينها تصبح قاصرة عن أداء الدور المناط بها منذ البداية، من هنا تنبثق فكرة اختيار الكلمات أثناء تكون اللغة للتعبير عن الأشياء والمسميات، الذي يأتي عشوائيًا، فالشيء الواحد تتعدد أسماؤه بتعدد اللغات، تكونت اللغة في البداية من كلمات قليلة؛ ثم بتكاثر البشر، وتنوع الاحتياجات، وبالاستعمال، والاشتقاق، والمجاز، والاستعارة تطورت اللغة.

في البدء كان الإنسان خالي الذهن، فكان يرتجل العلامات تلقائيًا، وبسبب أن البدايات كانت تتمتع بالتلقائية والحرية والطلاقة والرحابة، بسبب ذلك انطلق الإنسان ينشئ لغته ويسعى في تطوريها؛ مما جعلها تكون مفتوحة على كل الاحتمالات، فلا وجود للسوابق المُقيدة، فالسوابق عوائق.

لا يقتصر دور اللغة على تمييز نوعنا عن باقي الأنواع الحية فقط، بل تمارس كذلك دورًا على صعيد كل فرد منّا، عندما تقوم بترسيخ تعابيرنا النفسية الفردية ورسم حدودنا الاجتماعية والثقافية، تتجسد باللغة قيم الناس، وتُعرف بها أنواع اهتماماتهم، وتُعبر عن مستواهم الثقافي والحضاري، تستخدم الكلمات لنقل الأفكار، فوجود الأفكار يسبق الشعور بالحاجة إلى الكلمات، فالأفكار هي التي تُولّد الكلمات للتعبير والتوصيل، كذلك عن طريق اللغة نستطيع التعبير عن مشاعرنا وتصوراتنا.