منذ بدء الخليقة لعبت الغيرة دورًا محرضًا اتخذ وجهين مغايرين أحدهما مذمومًا يتمحور حول الغيرة السلبية التي كانت دافعًا لأول جريمة في التاريخ، والآخر محمودًا شكل دافعًا لفعل الشيء الإيجابي، ولتغلب الإنسان على ظروفه ونضاله الدائم لأجل تغييرها نحو الأفضل.

ومنذ بدء الخليقة سعى الإنسان للتميز، وعقد المقارنات مع الآخرين، ومنذ ذلك التاريخ تنمو الغيرة وتتطور مع الإنسان وفق مراحله العمرية، وتمارس بأشكال وصور مختلفة، تبقى مقبولة وطبيعية طالما بقيت في إطارها العادي، فيما تصبح بالغة السوء حين تتحول إلى الإيذاء والتعدي.

ووردت عدة قصص للغيرة في القرآن الكريم، بدءًا من قصة قابيل وقتله لأخيه هابيل غيرة من تقبّل الله لقربانه وعدم تقبله قربان قابيل، مرورًا بقصص أخوة يوسف، وقصة النبي موسى مع بنات شعيب، وغيرها.


الغيرة المذمومة

تقول أستاذ الإرشاد والصحة النفسية المساعد بجامعة الملك خالد، الدكتورة خديجة عبود آل معدي، إن القرآن الكريم والسنة النبوية حملا عدة صور وقراءات نفسية على المستوى النفسي والأسري والمجتمعي للغيرة بشقيها المذموم والمحمود.

وتضيف «من تلك الصور والقراءات للغيرة المذمومة التي تحمل صاحبها لفعل المكائد والحسد والظلم والبهتان وتشويه السمعة وإيقاع الألم النفسي على الآخرين، قصة سيدنا يوسف -عليه السلام- مع إخوته، وكذلك قصة امرأة العزيز وإلصاقها العيب والتعدي بسيدنا يوسف -عليه السلام».

وتتابع: «على الجانب الآخر هناك الغيرة المحمودة التي تحمل صاحبها على فعل الحماية والرعاية والاهتمام والصلاح لنفسه وللآخرين وللمجتمعن، وقد صورها القرآن في غيرة سيدنا موسى -عليه السلام- على بنات شعيب -عليه السلام، وكذلك الغيرة التي أمر بها الدين، منها مثل غيرة الرجل على أهل بيته ومحارمه، والغيرة على الدين وعلى حدود الله، والغيرة على القيم والمبادئ والأخلاقيات، والنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- أعظم الناس غيرة لله، فكان يغضب إذا انتهكت حرمات الله، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «ما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه في شيء يؤتى إليه، حتى ينتهك من حرمات الله، فينتقم لله»، والنماذج والصور على غيرته على محارم الله كثيرة جدًا».

وأرجعت آل معدي كلا النوعين من الغيرة إلى عوامل نفسية مثل سمات الشخصية وعوامل آخرى بيئية وثقافية ومجتمعية.

ولادة الغيرة

يعود الأخصائي النفسي العيادي الجنائي، الدكتور عبدالله بن أحمد الوايلي، للبحث في منشأ الغيرة، ويقول «تولد الغيرة في مرحلة الطفولة وتنمو وتترعر وتثبت نسبيًا في مرحلة المراهقة، فنحن نتعرض في حياتنا الاجتماعية لمواقف وأحداث مختلفة ونتعرف على أشخاص كثر ومختلفين، فنتعلم المعرفة كما نكتسب السلوك الذي يكوّن شخصياتنا، ومنها الفعل وردة الفعل».

وأضاف «للغيرة النفسية عدة تعاريف، سواءً كانت علمية أو إجرائية، ومنها (أن الغيرة عبارة عن استجابة شعورية معقدة نحو تهديد معين ومدرك له قيمة أو معنى)، وتفسيرًا لذلك ومن هذا المنطلق أثبتت الدراسات النفسية أن الجانب السلبي في الغيرة هو الأكثر تطبيقًا خاصة لدى النساء؛ لأنه يستثير الغضب ويهدف إلى الإيذاء، حيث يغيب التفكير وتحضر المشاعر التي تفضي إلى السلوك في عملية عاطفية سريعة، بعيدًا عن الاستبصار والحكمة، ما يفضي غالبا إلى خسارة الآخر».

ويتابع «في نفس السياق فإن الغيرة عادة تكون عبارة عن ردة فعل عاطفية لمشاعر القلق والتوتر حول تهديد نفسي حقيقي أو غير حقيقي، وهي هنا تختلف جذريًا عن الحسد الذي يقف على أخذ ما لدى الغير في حين أن الغيرة تقف على ما لديك؟!، حيث إن الغيرة السلبية للأسف تعد من أهم الدوافع المؤدية إلى الجريمة سواء كانت جريمة شعورية فقط أو جريمة جسدية حقيقية كالقتل، وقد ذكر ديفيد بوس أن الغيرة المؤلمة عادة تشير إلى اختلال توازن القوى في العلاقة بين اثنين، فالخوف من فقدان الطرف الآخر يجعل الإنسان يعمد إلى قمع التعبير عن الغيرة».

الغيرة المفسدة

يواصل الوايلي «ضمن هذا الإطار يبقى السؤال المطروح فعلاً هو ما سأله بيريل سابقًا، وهو: إذا كانت الغيرة صحية أو حتى مفيدة فلماذا تفسد كثيرًا من العلاقات؟، ومن وجهة نظري فإن الإجابة هي أن الغيرة ليست كلها (مظلمة) أي غيرة سلبية فقط، وهي التي تأتي تسلسلية أي خطوة خطوة، ومن ثم تقود إلى حب التملك بما يعنيه من أنانية وتسلط، بل على العكس تمامًا هناك جانب مضيء وجميل جدًا للغيرة وهو الجانب الطبيعي والإيجابي فيها عندما تستخدم كأداة نفسية للتحفيز والتطوير وتركز على التنافس الشريف والاقتداء الحسن، ولكن كل ذلك يعتمد على بوصلة التفكير، فإن كان إيجابيًا أصبحت المشاعر والسلوك إيجابيين والعكس صحيح، والمشكلة الحقيقة ليست في المشاعر بحد ذاتها، وإنما في السلوك الذي يعني كيفية التعامل مع الآخر».

الغيرة السلبية

يسهب الوايلي في الحديث عن الغيرة السلبية، ويرى أنها إما غيرة (نفسية، أو مرضية، أو وهمية)، ولها آثارها النفسية والاجتماعية المباشرة وغير المباشرة، حيث تقود إلى انهيار الذات ودمار الآخر، فالبعض للأسف يعاني من مرض الغيرة حتى تشعر أن نموه العقلي توقف عند (فلان عمل وفلانة عملت!).

ويعتقد الوايلي أن للغيرة أسبابًا كثيرة، فهي نتاج عدة عوامل متداخلة فيما بينها ومنها، عدم الثقة بالنفس وهذا عامل رئيس، وكذلك عدم الاتزان الانفعالي الذي يعتمد على الفعل وردة الفعل، وكذلك عدم الشعور بالأمان سواء الأمن النفسي الفردي أو الأمن النفسي الاجتماعي، إضافة إلى ضعف العلاقات الاجتماعية بسبب العزلة والانطواء والحساسية المفرطة، وهناك عامل مهم جدًا يجب ألا نغفله وهو عامل التأثير المرضي كوجود مرض عقلي يتمثل في اضطراب الفصام أو الهوس أو غيرهما.

ويشير الوايلي إلى أن الغيرة أيا كان نوعها فإن لها علاجًا حالها حال أي مشكلة أخرى، حيث يتركز العلاج النفسي على الفهم والتنبؤ والضبط، فكلما فهم الإنسان ذاته من أفكار ومشاعر وسلوك، وعرف قدراته وإمكانياته، وكذلك فهم الآخر، كلما كان أقرب للاستقرار والصلابة النفسية.

الغيرة النرجسية

يذهب الأخصائي النفسي فارس الفضل إلى تناول الغيرة الأسرية التي تتفشى في الأسرة الواحدة، وتتناول العلاقات بين الأبناء ووالديهم، ومنها غيرة الابن من الأب، أو غيرة البنت من الأم، أو العكس، وقال «تكون هذه الغيرة مقبولة عندما يكون دافعها الحب وعدم التسلط، لكنها تصبح غير مقبولة عندما يكون دافعها السيطرة والتسلط، فالعلاقات الأسرية تبنى أساسًا على الحب والتعاون والتفاعل فإذا خرجت عن المسار الطبيعي سيطرت الغيرة على الأجواء الأسرية وقادت إلى التفكك والتشتت».

وأضاف «تمارس بعض الأسر على مستوى الوالدين أو أحدهما النرجسية ويورثونها لأبنائهم، وهذا معول هدم للأسرة، وربما يكون كذلك عنوانًا للجريمة، ويتجلى هذا في أبسط صوره في تكريس ثقافة الغيرة بين الأبناء بقول إن أخوك أفضل منك أو الحديث عن الابن أو الابنة بسوء في غيابهم بحضور بقية الأشقاء، مما يخلق غيرة نرجسية سلبية تنتج الأنانية والخيلاء لدى الأبناء، سواء بشكل ظاهر أو غير ظاهر».

أنواع الغيرة

ـ طبيعية

ـ غير الطبيعية

أنواع الغيرة الطبيعية

الرومانسية

- «غيرة الحب»

الغيرة فى العمل

- «غيرة القوة».

- تنشأ بسبب غياب فرص الترقي في العمل ومعدلات الرواتب وغيرها.

غيرة الأصدقاء

- غيرة المراهقة.

- تتمثل بالخشية من الطرف الثاني وذهابه إلى شخص آخر متطفل على الصداقة الأصلية.

غيرة داخل الأسرة

- غيرة طفولة كأن يغار الصغر لو حملت أمه صغيرًا آخر أو داعبته.

- غيرة الابن من إخوته الآخرين وعلى الأخص الأصغر سنًا.