وجاء الاستعمار إلى المسلمين وهم في هذا الجوّ البائس من انحسار سُلطة النقل الصحيح والعقل السليم، فوَطَّدَ لهم بِدِعَايَتِه سُبُلَ الانهزام للأهواء، تحت شعارات تحدِّي الكهنوت، والانعتاق من سلطة رجال الدّين، وتحرير العقل من القيود التراثية؛ وسرعان ما انتصرت الأهواء وبدأت خسائر القِيَمِ الإسلامية تتوالى إلى أن مَسَخَت أو اقتربت من مَسْخ المجتمع مسخًا آخر غير الذي كانت فيه، فإذا أدركنا أنّ المسخ الأول هو في اتجاهِ الغيبوبَة الاعتقادية والاستئسار للخرافات والكهانات وسدنة الأضرحة وكهّان الزوايا والخلاوي والتكايا والمقامات، فإن المسخ الجديد توجَّهَ للقِيَم المأثورة والانتماء للأمة والاعتزاز بالهُويّة.
والحاصل أنهما مسخان ليس منهما الحقّ الذي هو ما طلبه الله من هذه الأمّة وما أرادها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكونه؛ فالأوّل نستطيع أن نقول: إنه كان مسخًا باتباع أمم الشرق الغائرة في روحانيتها، والآخر مسخٌ باتّباع أمم الغرب الكالحة في مادِّيَّتِها.
وقد كانت رَحْمَةُ الله تعالى بأمّة نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم متجلّيةً بظهور الدعوةِ السلفية في وسط العالم الإسلامي أواخر القرن الثاني عشر الهجري، بحسام الدولة السعودية ويَراع علمائها، فقد انتشلت هذه الدعوةُ الإسلامَ من الخرافة التي كانت مقترنةً به لدرجة جعلت المسلمين يظنونها الجزء الأساس من مادته، ومن جهة أخرى قَدَّمَت للمسلمين الجانب العقلي والحضاري الذي يملأُ حياتهم في مواجهة الفلسفات والقِيَم الغربية التي اكتسحت بلدانهم.
وبصرف النّظر عن العداء الذي وصل درجةَ الاستئصال مما وُوجهت به الدعوة السلفية أولَ ظهورها، وهو ما سبق أن عالجناه في كتابات أُخَر، فإنه منذ ظهور هذه الدعوة والمسلمون في مواجهة حقيقيّة مع الاستعمار الفكري أولًا، ثم العسكري تاليًا؛ وبلغ استئناس المسلمين بالسلفية أنها أثَّرَت حتى على العلمانيين والليبراليّين الذين اختطفتهم الثقافة الغربية مبكّرًا من حيث إنها -أي: السلفية- صنعت فيهم اعتزازًا بإسلامهم كتراثٍ لم يكونوا ليعتَزُّوا به لو كان -كما خَبَرُوه قبل ظهور السلفية- عبارةً عن طقوس خرافية ظلامية تَسْخَرُ منها العقول ولا تنفرج إليها الأرواح.
وحين نَدْرُس فترة النهضة الحديثةِ العلمية والأدبية والفكرية في العالم الإسلامي بإنصاف، ستجد أن التأثر بالدعوة السلفية كان أحدَ أكبر المؤثّرات في جعل الشعوب أكثرَ قبولًا وإقبالًا على النهوض، وفي جعل علماء الشريعة أكثرَ انفتاحًا منضبطًا على الثقافات، وفي جعل المثقفين والمفكرين أكثر اعتزازًا بانتمائهم الثقافي.
فالتأثر بالسلفية تجلَّى للأعين عند علماء المشرق والمغرب حتى مِن خصوم السلفية، الذين ظهر تأثّرُهم باشتغالهم بمحاربة بعض البدع العملية التي أصبحت غرضًا يرميهم من خلالها السلفيون، فلم يَجدوا بُدًّا من المشاركة في إنكارها، وهو أمر جديد على العلماء الذين كانوا داعمين للبدع وأهلها وركيزة من ركائز وجودها، أما البدع العملية التي كانت شعارًا مميِّزًا لمذاهبهم المنحرفة، ولا يستطيعون التخلّي عنها لرمزية وجودها، فإنّا وجدناهم يُلَطِّفونها، ويُحَسِّنُون مِن مَظْهرها، كي يرفعوا شأنها في أنفس العامة، وتُحفظ رمزيتها في طُرُقِهم الصوفية، كبدعة إقامة المولد التي تشتمل في أصلها الموروث عن الدولة العُبَيدِيّة على رقص وطبل وزمر واستغاثات شركية، وادِّعاء حضور النبي صلى الله عليه وسلم بجسده، فوجدناهم يُجَرِّدونها -خاصة عند المناظرات- من هذه الخزعبلات، ولا يسْتبقون فيها إلا قراءة إحدى المدائح النبوية أو مختصر للسيرة النبوية، ليجعلوها أكثر قبولًا؛ لأن الفكر السلفي نشر بين المسلمين عقلانية لم تعد تتقبل الإيغال في الترهات، وبدأنا أيضًا نجد خفَّةً في التشدّد بالالتزام بالمذاهب والتعصُّب لها، فالحنفيُّ قد يفتي بغير مذهبه، وكذلك المالكي والشافعي والحنبليّ، وربما خرجوا عن الأقوال المعتمدة في المذاهب لاجتهادات أُخَر، تأثّرًا بالدعوة السلفية التي أعادت إلى الميدان فتح باب الاجتهاد لمن توفّرت فيه شروطه، والأخذ بمقتضى الأدلة الشرعية وإن خالف اختيارات المتأخرين من أتباع المذاهب كما كان الأمر قبل ذلك.
واستفاد الجميع من هذا الانفتاح الذي صنعته السلفية في العالم الإسلامي حتى واضعو القوانين في عدد من الدول الإسلامية، إذ استطاعوا أن يُقنّنوا بعض الأحكام من شتى المذاهب دون أن يخرجوا عن مجمل الشرع الإسلامي، وأن يُطعِّموا معظم قوانين الأحوال الشخصية باجتهادات جديدة ليست من المختار في المذهب المعمول به في بلادهم.
كل هذا لم يكن ليكون لولا التأثر الكبير بالسلفية التي كان ما فيها من العقلانية والسماحة والسعة وتعظيم النصوص سببًا لشيوع القبول لها، والثناء عليها من علماء المسلمين وأدبائهم ومفكريهم، من انتمى منهم إلى السلفية ومن لم ينتمِ، كالشيوخ: محمد عبده ومحمد المراغي وأحمد المراغي ومحمود شلتوت والخضر حسين والطاهر بن عاشور ومحمود خطاب السبكي وعبدالحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي والثعالبي الحجوي وعلال الفاسي والمودودي، وغيرهم كثير من أعلام طلائع القرن العشرين، ومثلهم من الأدباء والمفكرين: عباس العقاد وطه حسين وأحمد أمين وعبد المتعال الصعيدي ومحمود تيمور وشكيب أرسلان ومحمد كرد علي ومحمد بهجة الأثري ومالك بن نبي وأحمد بن خالد الناصري وكثيرون غيرهم أيضا.
فقد كان التأثر بالسلفية أو الشعور بأثرها وفضلها على النهضة العلمية والفكرية والسياسية الحديثة شعورًا عامًّا، لذلك كان القبول لها أيضًا قبولًا عامًّا في منابر علمية لم تكن تقليديًّا موالية أو مهادنة للسلفية، فالأزهر في أوائل القرن الماضي، والزيتونةُ والقرويون -وهي من أقدم الجامعات في العالم الإسلامي- انفتحوا على كتب ابن تيمية وابن القيم، وأصبحنا نرى بعض مؤلفات الشيخين تُدرّس هناك، ويقوم بتحقيق بعضها وبدراستها والإفادة البحثية منها شيوخ من تلك الجامعات، ولن يفوتنا أن نذكر من الأزهر الشيخين محمد محيي الدين عبدالحميد ومحمد حامد الفقي.
وقد بلغت السلفيةُ من العلو المعاصر بالأمّة العربية والإسلامية أن كادت إلى ما قبل ثلاثة عقود من الزمان أن تكون المذهب الذي تتوحّد عليه الأمة، فمن يذكر العام العاشر بعد الأربعمائة والألف وما قبله بعقود يسيرة يُدرك حجم التقارب الذي حصل بين المسلمين، مُمَثَّلِين في المؤسسات العلمية الشرعية والمؤسسات الدعوية، فلم تَكُنْ تُحِسُّ الفروقَ -رغم وجودها- بين الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة وبين الأزهر، ويمكننا اختصار تعريف كلٍّ منهما في تلك العقود بأن الجامعة الإسلامية مؤسّسة سلفية لا يُدَرَّسُ فيها التصوفُ ولا علمُ الكلام، والأزهرُ كان مؤسّسةً سلفيةً يُدَرَّسُ فيها التصوّفُ وعلمُ الكلام، فحجم الفرق بين التعريفين كان حجمَ الفرق بين المؤسّستين؛ وربما تلقَى أساتذة أشعريي المعتقد لا يجدون حَرَجًا في العمل في الجامعة الإسلامية وتدريس العقيدة السلفية فيها من منطلق مذهب السلف أحكَم، ومثلهم سلفيّون يُدَرِّسُون عقيدة الأشاعرة في الأزهر باعتباره هو المنهج المقرَّر هناك، وكانت العقيدة السلفيّة تُدْرَس في كثير من مساجد المغرب والجزائر وموريتانيا ومدارسها العتيقة؛ بل حتى في العراق وليبيا دون إنكار من السلطات في كل تلك البلاد؛ لما ثبت عندهم أن النشأة السلفية بطابعها العلميّ الإيماني تحفظ الشباب من الانحراف الأخلاقيّ، ولِمَا استقرّ عندهم من تقديم السلفيين للدعوة والتربية العقدية على العمل السياسي.
يتبع