ما زال القول بانتهاء الصحوة ينمو بواسطة الصحويين، وبعض الذين ينظرون للمشهد بربع عين، وبالتالي بدأت بعض المقولات تخرج لتعزز هذه النظرة، مثل القول بغياب النقد الموضوعي أو العلمي لفترة الصحوة، رغم الكم الهائل من الدراسات والأبحاث والمقالات التي صنعت في الأروقة الأكاديمية والبحثية السعودية، وما زال هذا القول منتشرًا رغم أن المراقب العادي لا تخطئ عينه أن الصحوة ما زالت حية في العقول وأن جهد كوادرها والمنتمين لها والمتعاطفين معها مستعر في إعادتها من الأبواب الخلفية، فالصحوة تعود متنكرة بأزياء مختلفة، وأشكال غير معهودة من قبل، ولا يمكن أن يُلحظ تسلل الصحوة عبر المتعاطفين معها دون المنتمين لها، الذين لزموا الصمت التام، أو حتى الانعزال والانسحاب من المشهد، وهنا مكمن الخطورة، أن ينهض بالفكر الصحوي غير الصحوي شكلًا وقالبًا.

الصحوة في السعودية لم تعد متمثلة بهيئة اللباس المعروفة، ولا بالتزمت والتشدد السابق، ولا بالتنظيمات الحركية المعهودة، بل بالفكر الذي يجوس خلال العقول، فصحويو «ما بعد الصحوة» اليوم هم الأبرز والأكثر سيطرة في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الإعلام الجديد وما زالوا يجذبون الجمهور بسبب الدعم الخفي والتخادم الكبير بين فئاتهم ومستوياتهم، ومن هنا يجب أن يكون معيار الفحص هو الفكر لا الشكل والخطاب لا المظهر.

والقائلون بموت الصحوة وانتهاء زمانها لا يدركون أن إحدى أهم الأدوات الأساسية في تمكن الصحوة من البقاء والتكيف والنمو من جديد، هي: أداة الكمون الإستراتيجي، ومحاولة البحث عن طرق جديدة لإعادة صياغة نفسها مع أوضاعها الجديدة، وهذا يعني أن الصحوة ستبتعد عن كل ما يقترب من التطرف بل وستعمل على إعادة هيكلة تنظيماتها لمواجهة إستراتيجيات مكافحتها.


وكذلك ترجع صعوبة القول بنهاية الصحوة في الحالة السعودية على مستوى الفكر لا الحركة، إلى خاصية هلامية التنظيم وصغر حجمه العددي مقارنة بالتيار العام، على عكس جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية في مصر مثلًا.

ومن هذا المنطلق استطاعت الصحوة في السعودية أن تتمرحل زمنيًا بثوبٍ وطابعٍ خاصٍ جديدٍ مختلف عما قبله، عدة مرات، بل يمكن القول بأن لهم في كل خمس سنوات تقريبًا شكلًا مغايرًا عما سبقه، ساعد عليه كما ذكرنا هلامية التنظيم وتقليص عدده، والاتجاه إلى تيارية الفكرة والحركة، وبفضل هذه التمرحلات والتموضعات، استطاعت الصحوة أن تتحول إلى صحوة عميقة كامنة تغذي صحوات ارتدادية متنوعة الظهور زمنيًا، ومتنوعة الاتجاه فكريًا، وذلك عن طريق اتخاذ صف جديد من التيار والتنظيم لموقف معاكس لما كان عليه رفاق الصحوة السابقة الذين منعوا أو سجنوا أو تحولوا إلى أفق آخر يصب في مصلحة الاتجاه إلى الهدف الأساس، ثم العودة بقالب جديد تمامًا، ومن هنا كان من غير المناسب أن نأخذ الصحوة كتلة واحدة، ونغض الطرف عن هذا التموضعات المختلفة، لنقول بانتهائها وموتها، مما يجعل العلاج قاصرًا، فيعودون كما فعلوا مرات وكرات.

وحتى نعرف مدى خطورة سمة هلامية التنظيم، وقوة التيار، كما في الحالة السعودية، مقابل سمة قوة التنظيم وصلابة تكتلاته، كما في الحالة المصرية مثلًا، أشير إلى التالي:

في حالة تماسك التنظيم وصلابته، فإنه يمكن وبسهولة تامة ضرب خطوط الاتصال والتوجيه في الجماعة بحكم الهيكلية الهرمية في التنظيم، لفصل القيادة عن باقي كوادر الجماعة، وهذا سيسبب شللًا معلوماتيًا وشللًا على مستوى العمليات، يؤدي إلى الفوضى الداخلية في الجماعة.

أما في حالة سيولة التنظيم، وعدم وجود خطوط ربط بين المجموعات والخلايا بسبب هذه السيولة، فإنه يجعل من الصعوبة بمكان موت الفعل.

سيولة التنظيم توفر لا مركزية صنع القرار، مما يولد قيادات صغيرة لا تنتهي مع كل إيقاف لقيادة سابقة، عكس بيروقراطية التنظيم الصلب.

سيولة التنظيم تضمن خاصية تنوع القرار والحركة ومرونتهما، وقفزهما على الفتوى أو الرأي الشرعي السائد، وذلك طلبًا للتخفي عن عين المجتمع المنكر لفكرهم المتطرف، والهروب من وجه السياسي والأمني المكافح للتنظيم والتيار، وهذا التنوع غالبًا يوفر شبكة اتصالات واسعة، كما يوفر دعمًا لوجيستيًا دائمًا بلا انقطاع، يُمكن فكر الجماعة من البقاء والحضور أطول مدة ممكنة على الساحة. سيولة التنظيم وهلاميته نقلت الانهمام الصحوي من مسألة إنكار المنكر وتغييره كأحد أهم أشكال التحرك الصحوي سعيًا خلف الهدف الأول لجماعات الإسلام السياسي وجماعات نظرية الحاكمية إلى قضايا أخرى مثل قضايا الحقوق، والدستورية والحريات، من أجل التعمية والتضليل عن الهدف الأساس، وكذلك حتى يضمن التيار الصحوي، أوجهًا جديدة لم تتعاطف معه من قبل، كالحقوقي الصوفي، والدستوري الشيعي، والمعارض الليبرالي، وهم من كان موضع تكفير في ميزان الصحوي؛ لأن الهدف في النهاية ليس توحيد الكلمة والرأي بل توحيد الصف وحشده خلف غاية واحدة.

وأشير إلى فكرة انتهى زمانها، وهي تقسيم تنظيم الإخوان المسلمين الإرهابي الفرع السعودي إلى ثلاثة فروع، ممثلة بثلاثة مكاتب، في كل من جدة والرياض والدمام، أضحت لاحقًا خمسة تنظيمات بعد انشقاق حمد الصليفيح عن مكتب الرياض، وقدوم تنظيم وافد آخر، وهو التنظيم الزبيري، والمرتبط بإخوان الكويت، وقت قيادة جاسم مهلهل الياسين للتنظيم الكويتي، وهذا التقسيم (أعني الخماسي) شبه منتهي اليوم، وترتكز القيادة اليوم بتنظيم إخوان الحجاز، وبعض أفراده أعضاء في التنظيم الدولي للجماعة الإرهابية الأم، والعمل في بقية التنظيمات يدور كما لو كان كل تنظيم تنظيمًا مستقلًا ومنفصلًا، وذلك من باب الاحتياطات الأمنية، وحدث النزوع لهذا الأمر بعد أزمة الخليج 1990، واستمرت المراجعة وإعادة التقييم حتى ما بعد الحوار الوطني 2003، ومالت هذه التنظيمات، ومعها التنظيم السروري إلى التكامل والتعاون وتوحيد الصف وتلافي الخلافات والصراعات والتنافس على المواقع والكوادر والمكتسبات، باتجاه عدوها المشترك، وهو الدولة.

أخيرًا، إن من أخطر تمظهرات الصحوة اليوم ظاهرة المشاريع التربوية والدعوية الإلكترونية التي تصل إلى أبنائنا بسرعة الضوء وتدخل علينا من باب حماية المجتمع المسلم ورد الشبهات وتعليم الدين الصحيح المنقى من الشبهات والبدع، وهي في حقيقتها إعادة نشر وانتشار لأفكار الصحوة بقالب جديد.