أحبها وأحبته، حتى ذهب بها في الحب مذهبا قالت له فيه: «لو جاءنى قلبي في صورة بشرية لأراه كما أحسستُه، لما اختار غير صورتك أنت في رقتك ! وعطفك وحنانك» وحتى ذهبت به في الحب مذهباً قال لها فيه: «إن الجنة لاتكون أبدع فنا ولا أحسن جمالاً، ولا أكثر إمتاعا – لو خلقت امرأة يهواها رجل – إلا أن تكون هي أنت!» فقالت له: «ويكون هو أنت... !». وتد لست فيه، حتى كأنما خلبها عقلها ووضع لها عقلاً من هواه، فكانت تقول له فيها تبثه من ذات نفسها: «إن حب المرأة هو ظهور إرادتها متبرئة من أنها إرادة، مقرة أنها مع الحبيب طاعة «مع أمر، مذعنة أنها قد سلمت كبرياءها لهذا الحبيب، لتراه في قوته ذا كبرياءين».
وافتتن بها حتى أخذت منه كل مأخذ، فملأت نفسه بأشياء، وملأت عينه من أشياء، فكان يقول لها في نجواه: «إني أرى الزمن قد انتسخ مما بيني وبينك، فإنما نحن بالحب في زمن من نفسيتنا العاشقتين، لا يسمى الوقت ولكن يسمى السرور، وإنما نعيش في أيام قلبية، لا تدل على أوقاتها الساعة بدقائقها وثوانيها، ولكن السعادة بحقائقها ولذاتها».
وتحابا ذلك الحب الفني العجيب، الذي يكون ممتلئاً من الروحين يكاد يفيض وينسكب، وهو مع ذلك لا يبرح يطلب الزيادة، ليتخيل من لذتها ما يتخيل السكير في نشوته إذا طفحت الكأس، فيرى بعينيه أنها ستتسع لأكثر ما امتلأت به، فيكون له بالكأس وزيادتها، سكر الحمر وسكر الوهم.
تحابا ذلك الحب الفوار في الدم، كأن فيه من دورته طبيعة الفراق والتلاقى بغير تلاق ولافراق، فيكونان معاً في مجلسهما الغزلي، جنبه إلى جنبها وفـاهـا إلى فيه، وكأنما هربت ثم أدركتها، وكأنما فسرت ثم أمسكتها، وبين القبلة والقبلة هجران وصلح، وبين اللفتة واللفتة غضب ورضا.
وهذا ضرب من الحب يكون في بعض الطبائع الشاذة المسرفة، التي أفرطت عليها الحياة إفراطها»، فيلف الحيوانية بالإنسانية، ويجعل الرجل والمرأة كبعض الأحماض الكيماوية مع بعضها، لا تلتقى إلا لتمازج، ولا تمازج إلا لتتحد، ولا تتحد إلا ليبتلع وجود هذا وجود ذاك.
وضرب الدهر من ضرباته في أحداث وأحداث، فأبغضته وأبغضها، وفسدت ذات بينهما، وأدبر منها ما كان مقبلاً، فوثب كلاهما من وجود الآخر وثبة فزع على وجهه. أما هو فسخطتها لعيوب نفسها، وأما هي.. أما هى فكرهته لمحاسن غيره!
وانسربت أيام ذلك الحب في مساريها تحت الزمن العميق، الذي طـوى ولا يزال يطوى ولا يبرح بعد ذلك يطوى، كما يغور الماء في طباق الأرض، فأصبح الرجل المسكين وقد نزلت تلك الأيام من نفسه منزلة أقارب وأصدقاء وأحباء، ماتوا بعضهم وراء بعض وتركوه، ولكنهم لم يبرحوا فكره، فكانوا له مادة حسرة ولهفة. أما هي.. أما هي فانشق الزمن في فكرها برجة زلزلة، وابتلع تلك الأيام ثم التأم... !
1927*
* كاتب مصري «1880 - 1937»