العنوانُ مقتبسٌ من حسن الكرمي، في برنامجِه الإذاعيّ في (BBC)، في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، وقد أرادَ به - كما يقول- التسليةَ والإمتاعَ، والتعريفَ بشيءٍ من ذخائرِ الأدبِ العربيِّ وطرائفِه، وقد قُوبل البرنامجُ- ومن ثمَّ الكتاب فيما بعد- بقبولٍ أعلى من هدفِ الكاتبِ/المذيع.

حين نقفزُ بالذاكرةِ سنجد الفيلسوفَ هايدغر قد كتبَ (مقالات ومحاضرات) في خمسينيات القرن العشرين، وهو مُتزامنٌ مع مقالاتِ حسن الكرمي، ويجمعهما ظرفُ الافتراقِ والاجتماعِ؛ أي افتراق المقالاتِ، ومن ثمّ اجتماعها بين دفّتي كتابٍ، إضافةً إلى كونِ محتوى الكتابين تُلقّي صوتًا ومن ثمّ كتابة.

وعى هايدغر لمسألةِ القارئ؛ الذي يُغيّرُ من مهمةِ الكاتبِ، حين قالَ في تمهيده للكتابِ نفسه: «مادام هذا الكتاب لم يُقرأ فإنه تجميع لمقالات ومحاضرات، أما إذا قُرئ فإنه يمكن أن يكون كتابًا جامعًا». فالقارئُ لا ينشغلُ بانفصالِ المقالات، بل يَنْظِمُ لها معنىً وهو يقرأ. ومن هنا يحضرُ تلقي كتابَ (قولٍ على قول) على أساسٍ من أنَّ المؤلفَ لم يُفكّر بأكثرَ من الإشارةِ من بعيد، دونَ التحريضِ والدفعِ بقوةٍ ليقينٍ يتبنّاه، ولم يُحمَّل الكاتبُ-من قِبَل القراء-حمولةً رسالية ومهمةً عليا، ورؤيةً ثقافية لابد من إبلاغها، ولهذا غَيّر التلقي من مفاهيم راسخةٍ عن التاريخِ، ومطلوبٍ من الكاتبِ استحضارها.


ويأتي سؤالٌ مُهمٌّ في هذا السياق، وهو ما الذي جعلَ الكرمي يضع اسم البرنامج كما هو على غلاف الكتاب؟ أي ما دامت المادة قد تحولت من كونها صوتًا إلى كتابة، فلِمَ لم يتغيّر العنوان؟ وهذا السؤال يعتمد على أساسِ أنَّ القولَ في الذاكرةِ يُعادلُ الصوتَ، حين نعتمدُ على اللحظةِ الزمنيةِ التي وُضِع فيها الاسم.

للصوتِ تاريخُه الميتافيزيقيّ، فحين قدم حسن الكرمي برنامجه - آنذاك- كان له مستمعون، أكثرهم الآن -إن لم يكن كلهم- موتى، وأما مستمعوه الآن -إن استطاعوا- فمحدثهم مَيّتٌ حقيقةً، وميتٌ مجازًا؛ بناء على نظريةِ (موتِ المؤلف) لرولان بارت، عندما كان بنيويًا ثم (مولد القارئ) لما ثارَ على البنيويةِ وأصبحَ مابعدَ بنيويٍّ، مع اصطحابِ مقولاتِ جاكِ دريدا؛ فالكتابةُ شيءٌ مُريبٌ منذ أفلاطون؛ لأنها قد تحيلُ إلى شيءٍ خارجيٍّ يُشوّشُ الذاكرةَ ويُشتِّتُ المعنى؛ لأنَّ الكتابةَ ستُنسّينا (الدلالة الأصلية) حين يغيبُ المتكلم؛ لهذا عدَّ أفلاطون الكتابةَ (داء ودواء) في الآن نفسه. داء؛ لما ذكرتُه آنفا، ودواء؛ لأنها تحفظُ الكلامَ من عواملِ الزمنِ. لكن بعدَ (اللاوعي) مع سيغموند فرويد، استبانَ الوجهُ الآخر للعقلِ، وجهٌ آخر مُتحكِّم بالعقلِ نفسِه، قَوَّضَ وهمَ أنَّ العقلَ مُكتفٍ بذاته. أي أنَّ بنيةَ العقلَ لها وجهان: وعي/ لاوعي، اللاوعي يختفي وراءَ المجازِ، وليس الحقيقة، ويخرجُ حين يغيبُ الرقيب؛ لهذا حينَ نكتبُ فإنَّ اللاوعيَ يكون موجودًا في الأوراقِ بالمجازاتِ والرموزِ ونحوها؛ وهو ما يُشوّشُ على ظهورِ المعنى. من هنا يقول رولان بارت: «إنَّ النصَّ حقلٌ ونسيجٌ منفتح له تاريخ، وليس منغلقًا».

ونحن نسائل مؤلِفًا ميتًا مجازًا وحقيقة، فإننا نستدعي معنى موت المؤلفِ، باستعادةِ معنى (القولِ) من جهةٍ ربما اختفت في أوراقِ حسنِ الكرمي ورموزِه، وهي أنَّ كثيرًا من اللغويين المُحدَثيْن يُضيّقونَ معنى الدلالةِ ويخصّونها بالجُمَلِ، أمَّا (القولُ) فإنَّه معدودٌ لديهم في دائرةِ علمِ الرموز، ويُمكِنُ أن يُنسب له ما يَتعلّق بالسياقاتِ الخاصةِ بالقولِ كالمعتقداتِ، والمواقفِ، والإشارةِ إلى كياناتٍ مجتمعيةٍ، والأعرافِ والتقاليدِ...إلخ.

ولعلَّ قارئَ كتابِ قولٍ على قول، يستحضرُ الاستطرادَ المبنى على مفهوم القولِ هذا، فحينَ يَسألُه السائلُ: مَنْ قائل هذا البيت: «إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني/عنيت، فلم أكسل ولم أتبلد»؟ لا يكتفي بقولِ: إنَّه طرفةَ بنِ العبدِ، لكنَّه يُطوِّفُ بالحديثِ حولَ مذهبِ طرفة في العيشِ. ومن ثم فإننا أمامَ كتابةٍ قوليَّة، يمكن لنا أن نضعها في خانةٍ تجمع نقيضين مفترضين، إذ هي تستبطن سياقات خارج الجمل اللغوية، وأسئلتِها الحاضرة. لهذا مِنَ المهمّ في استعادةِ موتِ المؤلفِ -هنا- أن استحضرَ قولًا على قولٍ؛ وهو قولٌ، للكاتبةِ الصينيةِ (آن تشينغ) بعنوان (الصين، هل تفكر؟) ترجمَه المغربي عبد السلام بنعبدالعالي.

وسؤالُ هل تفكر الصين؟ يتناسبُ مع استطراداتِ حسنِ الكرمي، وسلوكِه مذهبَ القولِ الداخلِ في علمِ الرموز، لأنَّ مفهومَ الاستطراداتِ سيأخذُ معنى الحيوية، حيث يحيا به نصٌ أُغلِقَ تاريخيًا، ومثاله المطلق هنا المتنُ الصيني، فالكاتبةُ فنّدت قولَ مَن يقولُ إنَّ الفكرَ الصيني حكمةٌ قديمة، ظَلّت بمنجى عَمَّا يهزُ الثقافةَ العالمية. أي أنَّ ثمةَ رؤيةً مغلقةً-هي هنا الرؤية الأوروبية- تؤمنُ بأنَّ الثقافةَ الصينيةَ لم تَعُد تُفكر، لأنَّها بلغتْ نهايةَ الفكرِ، ولعلَّ ذلك أمنيةٌ غربيـّة، بأن تكونَ الصينُ ملاذًا للهربِ من أفعالِ التاريخِ وتطورِه، وأمَّا الصينيون فانفتحوا على غربِ ما بعد عصرِ الأنوار، لهذا تُشيرُ الكاتبةُ إلى إرادةٍ غربيةٍ لتحويلِ الفكرِ الصيني إلى متحفٍ، واختزالِه ليلعَبَ دورَ الآخرِ، كطرفِ مُقَارنة، وذلك لإرغامِه على أجوبةٍ ليست له، وهُنا نتذكّر قول تولستوي:

«لا تتبنَّ إجابات الآخرين عن أسئلةٍ لم تراودك بعد».

وربما هو أيضًا تَذَمّرَ من بحثِ الأوروبيين عن ثابتٍ ليُقارنوا به مُتَحَركِهم الوحيد. ومِن هُنا يحضرُ السببُ الخفيّ لاختيارِ عبد السلام لهذا النص بحدِّ ذاته؛ إذ هو جواب عن سؤالٍ مضمر، وهو «لماذا انكببتم على الفكر الأوروبي وأهملتم ما تحبل به ثقافات أخرى؟» ومن ثمَّ آنَ لحسن الكَرمي الميّتِ، أن يَستطردَ في تاريخِ العربِ المطمورِ في نُسَخِه التي بُنيت على أجوبةٍ لم تراوده، بل بناءً على استشراقٍ، واستشراق مضاد.