وكنت قرأت مقالا بعنوان (هل أتاك حديث الفيل)، يدعو فيه كاتبه إلى الثورات، ويشبه الشعوب بالفيل الذي رُبط بحبل رقيق، أدنى حركة تقطعه، لكنه خانع ذليل، وهكذا الشعوب في نظره، فالشعب - كما يقول صاحب المقال- يُلقّن منذ لحظة الولادة وحتى لحظة الوفاة أن نظام الحكم خط أحمر لا يمكن تخطيه.
وقبل أيام قرأت أيضاً مقالا في إحدى صحفنا فهمتُ منه أن كاتبه يتساءل لماذا فشلت الثورات في بعض الدول الإسلامية أيام ما سُمي بالربيع العربي، فتحدث عن محتويات الجوال من نظام تشغيل وتطبيقات.. الخ، وقال كما أن الجوال ميت لا يعمل بدون برنامج وتطبيقات حديثة، فكذلك لم تنجح الثورات في تلك الدول التي سماها لأنها استدعت البرنامج الأساسي القديم ليقدم له الحلول.
وقال إن «داعش» تشتغل على برنامج أساسي تم تصميمه في العصر العباسي،
وذكر أن الشعوب لا تميز بين التطبيق وبين النظام الأساسي. تظن دائماً أن مشكلتها مع السياسي وأن الثورة على السياسي هي الحل. لا تدرك أن النظم السياسية ليست سوى تطبيقات مهما ثارت على التطبيق وأسقطته فالنظام الأساسي متحكم وسيعود إلى إنتاج تطبيق جديد لا يختلف عن السابق إلا بالاسم.
وأقول: من حقي أن أبدي رأيي في هذا الموضوع، وأسأل الله أن يكون خالصا صوابا.
أولا: المصطلح الشرعي «للمظاهرات» هو الخروج على الحكام، وإذا كان الأمر كذلك، فلننظر ماذا جاء في الكتاب والسنة في هذه المسألة، صحيح أن دعاة الفصل بين الشريعة والحكم لا يحبون الرجوع إلى النصوص الشرعية، لكنهم غالطون في ذلك، فالشريعة هي التي تتم على ضوئها البيعة الشرعية لولي الأمر، وهي التي بينت حقوق ولاة الأمر على الرعية، والشعوب والحكام كلاهما مسلمون ومن البدهي أن يعملوا بالإسلام عبادة ومعاملة وتحاكما.
فالخروج على ولاة الأمور، سواء تم باسم مظاهرات، أو اعتصامات أو عصيان، أو غير ذلك، لا يخلو من أمرين:
1- إما أن يكون الحاكم مسلما يؤدي الصلاة، فهذا لا يصح الخروج عليه ومنازعته مهما حصل من المعاصي والظلم والأثرة، والأدلة على ذلك كثيرة جدا، نكتفي بحديث واحد رواه مسلم في صحيحه، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم (شرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم قلنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة إلا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزِعَنَّ يدًا من طاعة). هذا في حق من نبغضه لمنابذته لبعض أحكام الشريعة، فكيف بمن نحبه لخدمته الإسلام والمسلمين؟
والنبي عليه الصلاة والسلام قال في الحديث الصحيح (إنكم ستلقون بعدي أَثَرَة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) لم يقل: ظاهروا، اخرجوا، نابذوا، اشجبوا، استنكروا، بل قال: (اصبروا) ولو كان هناك كلمة أحسن من اصبروا لقالها عليه الصلاة والسلام، فهو أنصح الناس وأعلم الناس وأتقى الناس وأشجع الناس.
2-وإما أن يكون كافرا كفرا بواحا عندنا من الله فيه برهان، فلا يصلي، ولا يدين بدين الإسلام، فهذا لا يُخرَج عليه إلا بشرط القدرة على إزالته بدون سفك دماء المسلمين، لحديث عبادة رضي الله في صحيح البخاري (بايَعَنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأَثَرةً علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان)، وأما شرط القدرة فدليله قوله تعالى (فاتقوا الله مااستطعتم) ولأن سفك دم المسلمين ليس بالأمر الهين، ففي الحديث الصحيح (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم).
قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم (كفرًا بواحًا ) أي: صريحًا ما يحتمل التأويل ولا الشكّ لأنّه إذا احتمل التأويل أو الشّك فربّما يكون هؤلاء الذين ارتكبوا كفرًا بواحًا ارتكبوه عن جهل وتأويل، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله في رسائله المردانية إنّ الإمام أحمد رحمه الله يرى أن مذهب المأمون وأشباهه من الدّعوة بالقول بخلق القرآن أنه كفر، ولكنه لا يكفّر المأمون بل يدعو له ويترحّم عليه، فلا بدّ أن يكون الكفر: بواحًا ما فيه احتمال ولا للتأويل أو الجهل أو ما أشبه ذلك، والشّرط الرابع: عندنا من الله فيه برهان، أي: قاطع.أ.هـ.
وبناء على ما تقدم من النصوص الشرعية فإنه لا يُلتفت لمن يهيجون على الحكام بالثورات ونحوها، لأنهم يستهينون بدماء المسلمين، ثم لو تزعزع الأمن فهم أول من يدفع الثمن لو كانوا يعقلون.
وأما قول صاحب المقال: ان الشعوب يُلقَّنون أن نظام الحكم خط أحمر، فنقول: نعم هو خط أحمر، وذلك بموجب الأدلة الشرعية، وهذا الخط الأحمر هو الذي جعلك تعيش بأمان، وإلا لربما وطئتك أقدام الثورات والفتن، فاحمد الله، والزم العافية، ولا تدعو للخروج والثورات.
ومن التسطيح وعدم فقه المآلات: تشبيه الثورات والفتن والخروج والمظاهرات بالجوال وبرامجه، إن صلحت برامجه نجحت الثورات والديموقراطية، وإلا فلا.
فالخروج على الحكام المسلمين مُحرَّم بغض النظر عن نتائجه، والعبرة في ذلك بالنصوص الشرعية لا بالجوال والتطبيقات والبرامج.
وإني أدعو كل من يطلع على كلمتي هذه أن يحافظ على كيان الدولة وقادتها، ولا يخرق السفينة بقول ولا فعل، بل ولا بشطر كلمة، ذلك أن الشعوب لا قيمة لهم بدون الأمن والاستقرار، الذي يوفره - بعد الله- ولي الأمر، فيحمي الحدود، ويقضي على الفوضى، ويقيم الحدود.
وعلى الجميع أن يعززوا اللحمة الوطنية، ويسمعوا ويطيعوا لولاة الأمور بالمعروف ولا يُنازعوهم، حتى وإن رأوا ما يكرهون، وليعلموا أن ما يكرهونه في الجماعة، خير مما يحبونه في الفُرقة والمنابذة.
والخطأ إذا وُجد فإنه يُعالج بالحكمة والتواصل مع الحكام بكل أدب ورفق، لا بالمظاهرات والمصادمات.