فمسرحية المومس الفاضلة لساتر التي كتبها في 1946 تعري المجتمع الأمريكي من شعاراته الديمقراطية، وتكشف عيوبه، فهي تنطلق من مشهد الرجل الزنجي المتهم باغتصاب الفتاة الشابة، الذي يدخل شقتها ويطلب منها أن تبرئه، ليزي القادمة من القرية إلى الولايات المتحدة، في القطار تعرضت لمحاولة اعتداء من قبل البيض فاتهموا السود بذلك. بالوقت نفسه كان عندها زبون أمضى ليلة معها، وفي الصباح طلب أن تغطي الفراش، كي لا يرى الخطيئة ـــ حسب قوله ـــ التي كان في أحضانها، هذا الشخص هو فريد ابن أغنى وأهم أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي، وقاتل السود في القطار هو ابن عم فريد. بهذا تقع ليزي في قبضة مجلس الشيوخ والشرطة وسعيهم في قلب العدالة، فتظهر محاولة إقناعها، ثم الرشوة، ثم تدّخل الجانب العاطفي بأن هذا المتهم من عائلة كبيرة له أم مسنة تموت أن حكم عليه بالسجن. موقف صعب يمرّ على تلك الشابة، لتعلن رفضها مغرياتهم، بالمقابل تكشف قوتها أمام عظمتهم ثوريتها على عدالتهم فيهددونها بالسجن، لأنها مومس!
في نهاية المشهد تصرخ إن الزنجي بريء. المرأة المومس تعدّ من الهوامش في المجتمع، وهذا الأخير أثر في الأديب فدخلت في الأدب.
لكنها عند سارتر أخذت المركز وصارت تتلاعب بمجريات الحدث، فمن الجانب الفني نرى ليزي أصبحت المركز، الذي أتكأ المسرح عليه، وهي قادت زمام المشاهد والشخصيات واشتدت الحبكة عندها حينما رفضت عدالتهم الزائفة. ومن الجانب الاجتماعي ونظراتها السلبية لها، نلحظ أنه مزدوج الرؤيا، فمن ناحية يجرمها على خطيئتها، ومن ناحية أخرى لم يسأل المجتمع نفسه ما العوامل التي قادتها إلى احتراف هذه المهنة؟ أليس الخلل في البنية الاجتماعية ذاتها؟ والأسرية؟ وحتى على مستوى الاقتصاد؟
سارتر في مسرحيته نبذ العنصرية على لسان المرأة، لما لها من تأثير في القارئ، كما أنه أظهر الجانب الآخر فيها هو الإنسان.
أما توفيق الحكيم في مسرحيته السلطان الحائر التي كتبها عام 1960 تقترب قيمته من المومس الفاضلة، يبدأ الحكيم من مشهد المحكوم عليه والجلاد وانتظار الأخير مؤذن الفجر وتكبيراته، ليقطع رأس المحكوم عليه فتتدخل المرأة الغانية وتمنع المؤذن من الآذان بحيلة، فيتوهم الجلاد أن الآذن لم يحدث وبهذا يأتي الوزير فيجده غير معدوم.
ويمرّ موكب السلطان والقاضي فيطلق المتهم صرخته بأنّه بريء!! وعند الاستفسار عن سبب الحكم بالإعدام يتضح أن المحكوم رجل يعرف سر السلطان، فيقول إنَّ السلطانَ عبدٌ لم يعتقه سيده. وهنا تنقلب موازين الحدث فيقع بين حكم (القانون أو السيف)، فحيرة السلطان صارت بين الوزير وسيفه والقاضي والقانون فاختار الثاني.
بحسب القانون يعرض السلطان للبيع في مزادٍ علني، ويتمّ شراؤه من أحد أفراد الشعب، وبهذا تظهر الغانية مجددًا على المسرح؛ كونها اشترت السلطان بكلّ ما تملك من أموال وذهب، فالدولة باعته والشعب اشتراه ولا يملك ثمنه إلا الغانية (العاهرة بحسب ما جاء بالمسرحية)، فتنتقل الغانية من الهامش إلى المركز على المستوى الفني والاجتماعي، نوضح الأول للقارئ: في المسرحية ظهر البطل المحكوم عليه والسلطان والوزير والقاضي، والغانية كان دورها ثانويًا لكن من بعد مشهد بيع السلطان تحتل الصدارة في المسرح فالحكبة تشتد عندها، بعد شراء السلطان لم توقع عقدَ عتقه إلا بعد أن يقضي ليلة عندها فتعود محنة السيف والقانون، فيختار السلطان الثاني ويقضي ليلة معها؛ فينكشف الغطاء عنها بعد أن تحكي له ولعها بالأدب والفنون والموسيقى من طفولتها فسيدها علّمها ذلك، وحتى بعد زواجها منه لم تترك الفن والأدب، وعندما توفي ظلت على هذا النمط الحياتي، وبيتها صار قبلة للفن، فظّنَ الناسُ أنه للعهر والبغاء، وهي استسلمت لما يقولون وقد أباحت للسلطان أثناء بقائه عندها، ويكافؤها بعد العتق بإهدائها ياقوتة عمامته.
يتضح أن توفيق الحكيم انطلق من بينة المجتمع التي تجرّم المرأة لمجرد قررت أن تعيش بنمط حياة لا يتلاءم مع الجماعة، فتنهال عليها أمطار كثيرة من الإتهامات، ويزيح الستار عن الجانب الآخر للمرأة الغانية في محاولة لتوعية المجتمع وأفراده الذين علقت فيهم الترسبات القبلية، كما أنه أظهر الثغرات الاجتماعية، والرؤى المغلوطة وهي إطلاق أحكام ظاهرية، عدا أنه جعل الغانية وحدها قادرة على شراء السلطان، وهذا ما أخفى الحكيم به رسالة خطرة وهي: إنّ السلطان الذي يجعل من شعبه جياعًا وفقراء وعند وقوعه بأزمة كبيرة، فإن الشعب لا يشتريه. قدم سارتر والحكيم مسرحًا اجتماعيًا يفجر المسكوت عنه، ويقرع المسرح بأصوات المرأة وحضور فكرها وجوهرها الإنساني.
* ناقدة عراقية.