كُلُّ ما قيلَ عن سؤالِ: ما الأدب؟ يُمكِن -بطريقٍ ما- أن يُجرَّ إلى الفلسفي، إذ لا تعريفَ جامعٌ مانعٌ له، حتى عند المتعاقبيْن أفلاطون وأرسطو -فضلًا عمَّا جرى في تاريخِ الفلسفةِ كُلّه- إذ هي عند الأول علم الوجود الحق المفارق لعالم الظواهر، وهي عند الآخر بحث عن الوجود بما هو موجود؛ وكأنَّ الانحرافَ عن المعيارِ هو المعيارُ لما هو فلسفيّ؛ لهذا رأى كارناب أنَّ الفلاسفةَ شُعراءَ أخطأوا الطريقَ؛ حينَ تجاوزوا الشعرَ إلى بحث قضايا الوجود بغير الوسيلة العلمية.

ومن هنا فلو قيل - سُخريةً: إنَّ الفلسفيَّ يَصِفُ ما يُقرأ، والأدبي يَطرقُ كينونة الأشياء؛ لما اختلطَ الحابلُ بالنابلِ؛ لأننا لو اكتفينا بأنَّ الأدبيَّ هو ما يصف المقروءَ ببيان أثره في السياقِ الاجتماعي، لخرجت آثارٌ كُبرى عن كونها أدبًا، وهذ الأمر يُشبه صنيعَ دولوز وغاتاري حين قالا إنَّ الفلسفةَ هي إبداعُ المفاهيم، ومن ثمَّ خرجت نصوصٌ كبرى في تاريخ الفكر الفلسفي؛ لأنها كانت تُنتج دلالات كلية للوجود. إننا نجد سيرورة لتضييقِ ما هو فلسفي، كما ضُيِّق ما هو أدبي؛ حين دافع عنه شِيلي، وجعله الإبداع المنظوم المتعارض مع أي غرضٍ نفعيٍّ. فهل يمكن عدّ هذا التضييق إلغاء لآخريةٍ ما؟ أم هو ورطة وجودية، حين تكون الإحالةُ للماوراءِ شرطًا لضمانِ المعنى؟ أم ثمة أمر آخر؟ فمثلًا حين يُرفَض طه عبدالرحمن، ويُعدّ ممن امتطى الفلسفةَ لأغراضٍ ما، فهل هذا عنف -لا واعٍ أفرزه الاستبداد والتسلط الخفي- تجاهه؟

هنا يحضر تعريفُ إيريك فِييل للفلسفةِ -بعد أن تجاوزَ الوجود والمعرفة إلى القيم- بعَدِّها رفضًا للعنف؛ مُقابلًا العنفَ بالعقلِ، أي أنَّ العنيفَ يمتنع عن الأخذِ بأسبابِ الاستدلالِ، ولطه عبدالرحمن رؤيتُه في رفضِ العنف، وقد استقاها من أصلٍ ديني بطريقِ التأويل؛ حيث يطرح مفهومَ (الملكوت) على أنَّه المفهوم التأملي الذي يُقرِّب ماهيةَ التفلسف؛ ولهذا فإنَّ الأخلاقَ -عنده- ترتقي لأن تكونَ عُنصرًا مُحددًا لماهيةِ الإنسان؛ ومن ثم فإنَّ العنفَ وصفٌ أخلاقيٌّ يخصُّ الإنسانَ دون الحيوان، لأنَّ العنيفَ يُدرِك تصرفه، ومؤثرًا إتيانه على تركه.


ومن هنا فالذي يُميّز العنفَ من غير العنفِ -عنده- هو الشرُّ الأخلاقي لا الطبيعي. فيأتي سؤالٌ: هل طه عبدالرحمن حين خَصّصَ المفهومَ وضيّقَ دائرتَه -لتُحيطَ بنظريته الائتمانية فحسب- كان مُعنِّفًا؟ هنا يحضرُ الصراعُ حولَ الأصل؛ إذ طه عبدالرحمن يُريد أن يُعيدَ الأصلَ الديني للفلسفةِ، ومَنْ ضادّه يبحثُ عن أصلٍ آخر، وهذا يُشبِه ما فعله أرنولد حين جعلَ الشعرَ ملاذًا بديلًا للدين. وهنا تحضر مساجلةُ طه عبدالرحمن لليفيناس -في علاقة الحوار بالمسؤوليةِ عن الآخر المـُعنَّف- حيث قال طه إنَّ نظريةَ ليفيناس تُغطِّي أصلَها التوراتي بلباسِ العقلانية المجردة، بينما نظريته هو، لا ترى حاجةً للتسترِ على أصلِها الديني.

وهذا الصراعُ قديمٌ؛ سأقاربُه -بمنحى جديد- من خلال جدليّة المعنى والدلالة؛ فحين تكونُ دلالةُ الفلسفةِ مُخْـتَلفًا حولها، فَمَن يملكُ المعنى المتعالي؟ أي الشيء الثابت الذي ضُمِّنَ الحقيقة، فالدلالةُ الأفلاطونيةُ هي باستخدامِه الحواسَّ في إدراكِ التخالفِ، ومن ثمَّ استخدامه العقل في صناعةِ معنى/عالم مثاليٍّ، أي لما كانت الحياةُ محصورةً بالدلالاتِ الحسّيّةِ (محبة الجسد/اللذة/المال/الجاه/الانتصار) انتقلَ بوعيه لصناعةِ نمطِ عيشٍ مخالفٍ لهذه الدلالات، ومن ثمَّ مفارقٍ لعالمِ العيشِ الواقعي. فكانَ شرطُ المعنى -عند أفلاطون- هو الجدل الموصِل إلى عالمِ المثل، وهنا يأتي إيزوقراط ليطرحَ الجدلَ العملي الإجرائي، أي أنَّ الفلسفةَ -نفسَها- أداةٌ إجرائية، فإذا كانت أداةُ أفلاطون الرياضيات، فإنَّ أداةَ إيزوقراط اللغة، وإذا كان موضوعُ جدلِ أفلاطون العالمَ المثالي، فإيزوقراط العالمَ السياسي الواقعي، أي إنَّ الدلالةَ لديه هي في سياسةِ الناسِ وقيادتهم، بالإقناعِ المستبدّ، والمراد باستبدادِ الإقناع -هنا- هو أن تكونَ الأداةُ الإجرائية/الفلسفة، معنى متعاليًا في الإيمانِ بالوصولِ إلى الحقيقةِ المحايثةِ للجدلِ، وهي الحكمُ السياسي المستبدُّ بالإقناعِ الخطابي، لهذا أنشأ أكاديميةً للخطابةِ، وحثَّ الإغريقَ على غزوِ الفُرسِ لتوحيدِ البلادِ، وإثرائِها. وهذا الصراعُ الجدليّ بين أفلاطون وإيزوقراط أنتجَ معنى أرسطيًّا؛ أي أنَّ صُلبَ فلسفةِ أرسطو قامت على معرفةِ المبادئ والعللِ الأولى؛ وكأنَّ ذلك لِحفظِ المعنى من الاختلافِ في دلالةِ الفلسفةِ، الذي نشأَ تحتَ بَصرِه في الأكاديميتيْن، وتحتَ بصيرته المعرفية حين عادَ لدراسةِ الفلسفةِ الأولى، ليجد أنها تنظر للوجود نظرةً بسيطة، كقولِ طاليس إنَّ الماءَ أصلُ الوجود؛ لهذا عادَ ليُرتِّبَ تاريخَ الفلسفةِ، بوصفه ضروريًا لرتقِ الفتق؛ فرفعَ من شأنِ العِللِ الأربع، وصارَ عُنفُ المعنى في اكتمالِ دائرة هذه العلل، كشرطٍ لمعرفة العالم، بينما الدلالة -لديه- تتجلى في جعلِ المعرفة العملية، سِوارًا يحيطُ بمعصمِ المعرفة الفلسفية، التي جعلها أشرف المعارف؛ لهذا كانت المعرفة العملية مجرد سوارٍ؛ وذلك من خلال الدستور، بصفته العلة الصورية للدولة؛ وهذه الدولة يقول عنها أرسطو إنها تنبثق من أجلِ الحياةِ الخيّرة؛ لهذا انتهى به المطاف للتحيّز، حيث تحدثَ عن أشكالِ الحكم استنادًا إلى طبيعةِ النفسِ عند الرئيس والمرؤوس، كدفاعه عن نظامِ الرِقّ مثلا.

وعنفُ المعنى أنتجَ الشكَّ في إمكانيةِ المعرفةِ نفسِها، حيث نجد (بيرون) يُشيرُ إلى سقوطِ الثقةِ في طريقيْ المعرفة، لهذا رأى أنَّ المعنى يتمثّل في فن العيش، بصفته رفضا لإمكانية المعرفة، ومن ثم الطمأنينة والسعادة، وهذا التصور البيروني يرى أنَّ اليأس يورث الطمأنينة، والطمأنينة سرُّ السعادة، ومن هنا فالسعادة مرتبطة بكفّ البحث عن المعرفة؛ وهنا نتذكَّر فكرةَ أنَّ الجهلَ يورثُ السعادة كما يُروى عن الخليلِ بن أحمد: «وعِشْ حِمارًا تعش سعيدا/ فالسعد في طالع البهائم».

إلا أنَّ الجهل هنا فكرةٌ مُلحّة، ومن ثم هي تعليق للحكم، لهذا كانَ رفضُ إمكانيةِ المعرفةِ، يَولّد عُنفًا مؤجلًا، وهذا يَقفز بنا إلى التأثيرِ الذي اقتبسه غادامير من الفلسفةِ الظاهراتيّة، حيث فَرّقَ بين المعنى والدلالةِ؛ من جهةِ أنَّ الدلالةَ هي ما يَتوصّل إليها القارئُ عن طريق التوقعات والاحتمالات، أما المعنى فهناك في بئر مجهول. والعنفُ كامِنٌ في البئر.