خادعة أمواج البحر حين تؤنسك وتنساب في وداعة توشوش أطراف الشطآن فلا تدع للعالم إلا همسا ودوداً يداعب أذنيك، ولكنها حين تزمجر تقذف حممها الهادرة تزلزل كل كيان الشطآن الوديعة فلا يصمد أمامها سوى الصخور الصلبة تصدها وتردها في عنف خذلى حيث أتت بزبدها الهادر كرضاب الإبل الهائجة. تخال ذلك وأنت ثاو على الشاطئ الشرقي تسافر إليك أمواج مقبلة بزبدها ورضابها من الشاطئ الغربي هادرة تحمل غضبها بين ثنايا زبدها القذر أحياناً.

مسكينة شواطئ الشرق كيف تتلقى غضب البحر الهادر والمسافر إليها من بعيد، فلا تحتمل زئيره إلا إذا تصدرت له صخورها الصلدة التي تكفي لمواجهة هذا الطغيان الهادر وهذه الحمم اللعينة أحياناً.

لقد أثبت التاريخ الجيولوجي أن صخور الشرق من أجود صخور العالم، فنحن من يصدر للعالم أحجار الجرانيت والرخام والبازلت والمرو وغيرها، صخور صلدة لا يقوى عليها زبد البحر ورضابه ورعونته ومراوغته في ثوب يتقنع بزفة البحر التى تخدع الكثيرين منا، لقد أثبت علماء الجيولوجيا أن صخورنا الصلدة بهاماتها العاتية ورؤسها المدببة تمزق أي شراع دخيل وأنها لم تأت من الغرب بل ولدتها رحم أرضنا في مخاض عسر، ومن حمم بركانية عاتية صاغتها على أكمل وجه، وعلى أعلى درجة من التحمل والصلد، أحجار نفيسة قذفتها رحم الأرض الطاهرة التي درج عليها أنبياء الله عليهم صلاة الله وسلامه، فازدادت ارتباطاً بها وحباً وهياماً وشغفاً وحكمة.

ولكن.. ما يدمي قلوبنا هو أن تلك الصخور الصلدة غير المراوغة هي دائماً ملقاة على الشطآن البعيدة المظلمة، تتولى مرادعة الغضب أحياناً بالتحدي وأحياناً بالمراوغة، وإن كانت محببة ـ أي المراوغة ـ في مثل هذه الظروف، بينما نجد الرمال الناعمة منها البيضاء التي لا تفقه شيئاً ومنها الملونة كالحرباء الرقطاء، متثاقفة ثقافة زائفة تتعالى كالسراب، فيأخذ كل منها لونها المناسب حسب لون وطبيعة المكان والزمان وسرعان ما تأخذ لونا آخر كما أسلفت، فنجدها وقد تراصت في أوان زجاجية عالية الحرفية والدقة في التشكيل، وقد زينت بها ردهات الفنادق ذات الخمسة نجوم، وقد تكون متراصة على طاولة رقيقة بالقرب من حاكم أو سلطان أو دهقان أو شاه مفعمة بالزهو والود في ثقافتنا العربية، فلا يبقى إلا العزاء لصخر نشر صدره لرعونة المياه وطوفان الحقد ولسان حاله يقول كما قال ناجي:

ثاو على صخر أصم وليت لي قلبا كهذه الصخرة الصماء

ينتابها موج كموج مشاعري ويفتها كالسقم في أعضائي

لم يكن سقما بالمعنى المتعارف عليه ولكنه سقم من نوع آخر يأخذ من جسده قطعة تلو قطعة قد تلتهمها الحيتان من وجهة نظر موج البحر، لكنه لا يدرك أن صخورنا أبداً لا تؤكل، وإن أكلت لا تهضم، وإن هضمت لا تخرج إلا من عين الموج الذي يعشق الرمال الناعمة التي تداعب خديه كامرأة حالمة. ففي زماننا هذا نجد أن الرمال البيضاء البراقة على الضفاف حين يزمجر البحر يزفها إلى حضنه فيتعانقان كحبيبين والهين وهذا واقع الشطآن الملعونة.

إن صلادة الفكر العربي تأبى التراقص على الضفاف وتأبى الملاينة والالتواء مما يجعل الفكر الغربي يصمه بالتعنت أحياناً أو التزمت أحياناً وحتى التطرف في بعض الأحيان، مما يجعل مفهوم الحوار مع الغرب أمراً يشغل العديد من القنوات الثقافية دون التسلل إلى كنه هذه الأفكار. وللحوار أركان (التعرف، المعرفة، ثم الاعتراف)، ولا أعتقد أن الطرف الغربي لديه هذه الأركان كاملة بينما نحن نقرؤها بين عينيه في كل يوم ثلاث مرات كحبات (أنتي بيوتك) لمرض عضال.

الغرب يعرف الأصداف والصخور، والثقافة الغربية تعرف الثقافة العربية وتعرف الرجال العرب وتبقى جملة الاعتراف، وعلى علماء الجيولوجيا أو قل الجيوثقافة أن يعوا دور المفكر العربي ووضعه في مكانه اللائق بدلاً من تلك الرمال الناعمة في الزجاجات المعقمة تحت الأضواء الأرجوانية بينما الصخور الصلدة تقبع في ظلمات الليل أمام هدير الأمواج، فهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.

أبداً لن تقف الأمة العربية على رمال ناعمة تقبع في الفنادق وزجاجات الزينة، بل ستقف دائماً كعادتها على صخورها الصلدة، فأرضها كلها وعرة، كلها صخور وتضاريس ومغارات ودهاليز تطحن بين أسنانها كل موج هادر وغادر وقذر فيسافر حيث أتى، يحمل في زبده أنفاس القهر والحسرة والهزيمة. فلله درك من صخور عربية صلدة تتراقصين وتتصدين لما يسمى بمشروع الشرق الأوسط الجديد والكبير والصغير والملتوي وتلمسين الطريق كما في ألعاب التسالي ومشروع الفوضى الخلاقة أوالخراقة ـ بمعنى أدق ـ برضابها العفن الذي يجتاح وطننا العربي بأكمله، تدركين وتعلمين وتتصدين وتنشرين صدورك العارية حتى وإن كنت مهملة فلا يهم. فما أجملك من صخور صلدة حين ترقصين على الضفاف!