هذا النوع من الرجال في زماننا قليل ونادر.. قلما يجود الزمان بمثلهم.. فإن الزمان بمثلهم لبخيل!!

من حين لآخر تفاجأنا الأقدار برحيل قامة عظيمة من قامات الوطن العزيز، لنصحو من سباتنا وروتين حياتنا اليومي على حدث جلل يجعلنا نتأمل في ما حولنا من أحداث ومواقف وشخصيات، بالتالي فإن ذلك يجبرنا على استشعار قيمتها ودورها في حياتنا، التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من الثوابت الراسخة بالحياة، حتى أننا نعتبرها من الأساسات المعتادة لنا على مر الزمان، وعندما نفقدها تحدث الفاجعة، وتأتي الصحوة بعد الغفوة ولكن بعد فوات الأوان ووقتها، فإننا نستوعب قيمتها في مسيرتنا الحياتية...

بلا شك فإننا خلال مسار حياتنا نقابل الكثير والكثير من الشخصيات وكل إنسان له بعض الصفات والقيم التي تميزه عن غيره، ولكن عندما تجتمع مجموعة كبيرة من الصفات والقيم الحميدة في شخص واحد فهذا نادراً جداً، حيث إن هذا الإنسان تزداد مكانته واحترامه لديك بما تراه من سلوكيات رصينة وأفعال حسنة وأعمال خيرة وله يد بيضاء على كل من حوله، ولا يبخل بجهد أو أي مساعدة على أحد، ويتعامل مع الجميع بقيم ومبادئ تربى ونشأ عليها منذ صغره ولا يحيد عنها بأي حال من الأحوال، فهذا نبراسه الذي يؤمن به، ودستور حياته التي يسير عليه مدار حياته...


وعند فقدان هذه القامة والشخصية النيرة ذات الصفات والقيم العطرة فإن ذلك يجعلنا نستعرض شريط حياتنا للبحث عن أشخاص بهذه الصفات والقيم ولكننا نصطدم وللأسف بأن بعضا من حولنا يفتقدون هذه الصفات والقيم الأصيلة، بالتالي يزداد ألم الفارق والفقد لإنسان عظيم لا يعوض...

نعم... إن الفقد لموجع، والفارق لمؤلم، مما يشعرنا باليتم والوحدة والوجع النفسي خصوصا بعد رحيل قامات الوطن الغالي، ومنهم الأخ العزيز الغالي، المغفور له بإذن الله، تعالى الشيخ/ عبدالله أبوملحة الذي تحلى بكل الصفات والقيم الحسنة والجليلة، نعم فإنه امتلك عدداً كبيراً منها، فكان ليثاً في جميع المجابهات والمواقف الوطنية والإنسانية والاجتماعية التي تحتاج لرجل ذي قيم ومبادئ راسخة لا يحيد عنها، فكان يفزع لكل محتاج وطالب للمساعدة من أي نوع ويفي بكل الاحتياجات والمطالب التي تنصف المظلوم وترجع الحق لأصحابه.

وكان الفقيد العزيز وطنيا جاداً، قائداً مقداماً، إنساناً ناجحاً، لم يفتنه المال، محباً وعاشقاً لوطنه، ناصحاً مخلصاً لولاة الأمر، غيوراً بشدة على القيم والمبادئ، فقد جمع المشيخة التي ورثها كابر عن كابر والعلم والمثابرة الجادة التي حاز عليها على مدار حياته وخبراته المتعددة، مع تنوع الخصائص، وكان سباقاً بمبادرات التنمية الشاملة لمنطقة عسير، التي كانت تشغل حيزاً كبيراً من تفكيره وعقله ونفسه، وكان مدافعاً مستميتاً عنها بكل جوارحه، آملاً دائماً في رفعتها وحصولها على ما تستحقه من دعم ومكانة اقتصادية متميزة بين مناطق المملكة.

وقد تنازل وتبرع الفقيد كثيراً للوطن عن ممتلكات وأموال تخصه عندما تكون هناك فائدة عامة للبلاد مقنعا لجميع من حوله من المخلصين لوطنهم بالاقتداء به وفعل ما يقوم به من أعمال وطنية مخلصة، وكان يرحمه الله، خير من يمثل منطقته محلياً، وأفضل من يمثل وطنه دولياً، وكان يجتمع مع أصدقائه ومعارفه من المخلصين والمحبين لوطنهم على هدف واحد وهو البناء والرفعة لمملكتهم وهذه بلا شك من مميزاتهم التي تقدرها القيادة الرشيدة لهم...

وعند الحديث عن غرفة أبها فإن الحديث سيطول ولن نستطيع ذكر جميع مساهمات الفقيد في تأسيس الغرفة، ولكننا سنعرج على بعضها مما تسعفنا به الذاكرة، فقد أسهم الرجل بجدية وجلد في إنشاء الغرفة بكل جهد وعمل ولم يبخل بأي شيء عنها واستطاع ومعه رجال أعمال وطنيون أشداء من بناء هذا الصرح الكبير، ثم ترجل الفقيد عن الغرفة برغبته ولم يقبل العودة، ولكن أبقينا اسمه في جميع المناشط، وأطلقنا اسمه على أكبر موقع بالغرفة وهو مسرح الغرفة الذي يجمع بين أركانه معظم الفعاليات التي يتم تنظيمها، ونعتز بذكر اسمه بكل مناسبة، ولكنها هذه سنة الحياة، وإننا على الدرب سائرون وعلى العهد باقون.

ولتأسيس الغرفة التجارية الصناعية بأبها قصة ذات معان عديدة، حيث قام الفقيد باستضافة المرحوم العم الشيخ إسماعيل أبو داوود بمنطقه عسير، حيث إن الشيخ أبو داوود صاحب الخبرات المتعددة في إنشاء الغرف التجارية، وقد استفاد من تجربته وخبراته في بناء غرفة أبها حيث دون كل ما ذكره وجعله الدليل الأمثل الذي يسير عليه كمسار للغرفة، وبالفعل تم الحصول على الموافقة النظامية بدعم كبير من سمو أمير المنطقة حينها صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل- حفظه الله- الذي تبنى المبادرة لخدمة المنطقة اقتصادياً وتجارياً واستثمارياً.

ثم ظهر بعد الموافقات بعض العقبات والمعوقات منها الاحتياج لوجود مؤسسين يدعمون إنشاء الغرفة مالياً إضافة إلى وجوب أن يكون هناك متطوعون للمساهمة بوقتهم وجهدهم لتأسيس وإنشاء الغرفة، ونجح بالفعل المرحوم/ عبدالله أبوملحة بإقناع الجميع ومنهم– والدي الشيخ سعيد المبطي– طيب الله ثراه- الذي أسهم مالياً مع جميع المؤسسين، كما قام بتوجيهي بأن أشارك كعضو بمجلس الإدارة، ثم كان هناك معضلة أخرى تتمثل في إيجاد المقر والموظفين، واستطاع أبوملحة ومعه المخلصون من أبناء المنطقة في الحصول على أرض مقر الغرفة.

ثم تم اقتراض ما يقرب من 15 مليون ريال من الشيخ/ ناصر النابت- رحمه الله- وهذا مبلغ في وقته كان ضخماً جداً وغير مضمون رده، مع هذا أقدم الشيخ ناصر وأقرض القائمين على الغرفة المبلغ بضمان من الشيخ/ عبدالله أبوملحة، ثم بدأ البناء والإنشاء والتأسيس من العام الأول لبدء عمل الغرفة مع أن بعض لا يستطيع القيام بهذا العمل إلا بعد عشرات السنوات، حيث يتم جمع إيرادات ومخصصات. بالفعل.. تم بناء مبنى غرفة أبها ليكون تحفة معمارية في حينها، وليصر أبوملحة أن تكون كل المواد المستخدمة في البناء والتشييد محلية الصنع وكذلك جميع أنواع الأثاث.

من هنا انطلقت غرفة أبها بمساهمات عديدة مميزة بالمنطقة والوطن وأصبحت بيت التجار والصناع واصلت بعد ذلك ازدهارها ونجاحاتها وتفوقها على جميع الصعد حتى وصلت لرئاسة محلس إدارة مجلس الغرف، حيث ترأست 28 غرفة تجارية صناعية بالمملكة، والذي مسماها الآن «اتحاد الغرف التجارية السعودية»، وهذا يحدث لأول مرة في التاريخ.

كما نذكر أن من مساهمات الفقيد العزيز الشيخ/ عبدالله أبوملحة العديدة بالمنطقة دوره الكبير في إنشاء العديد من المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والخيرية منها: مصنع أسمنت الجنوب، المدينة الصناعية الأولى بعسير، والمعاهد المتخصصة، صحيفة «الوطن»، الجمعيات الخيرية، ولا ننسى مبادراته الكريمة في افتتاح فروع للغرفة بجميع محافظات المنطقة حتى وصلت الفروع لـ7 فروع كاملة، التي أسهمت بلا شك في زيادة التنمية المستدامة بالمحافظات، حيث كان يمثل كل فرع عضو بمجلس الإدارة لتعم العدالة والرضا بين الجميع، وليشعر أبناء المحافظات باهتمام الفرع الرئيس بهم وبمشكلاتهم والسعي نحو حلها ولتحقيق الخطة والطموحات المستهدفة من مجلس إدارة الغرفة.

في الختام، بيد أن ما ذكرناه من مميزات وأحداث وأفعال ومواقف أمضى المرحوم الشيخ عبدالله أبو ملحة عمره فيها، وذكرنا لهذه المواقف تأتي من واجب الوفاء الذي هو من شيم وصفات كل أبناء هذا الوطن الغالي ولنعلم بها الآخرين لعلهم يعتبرون منها، ويحاولون الاقتداء بها وأتمنى من الله أن يقتنعوا بالسعي نحو الخير ونمو الوطن، والعمل العام المخلص دون غرض شخصي ينجح دوما، فالأولوية للوطن الغالي.