نتائج انتخابات الرئاسة المصرية صدمت الكثيرين ووضعت شباب الثورة أمام خيارين مقلقين: خيار التصويت لمرشح فصيل سياسي يثير مخاوف البعض لأنه يستند إلى مرجعية ليست موضع اتفاق بين الجميع، أوخيار الانحياز إلى رمز النظام الذي أسقطته الهبة الشعبية يوم 25 يناير. هذه الصدمة المختلطة بالحزن والأسى على ضياع فرصة "الائتلاف" بين رموز تيار "التطمين" أربكت المواقف وخلطت الأوراق وأدخلت الخائفين في دوامة الحيرة والـتردد. وبين خيوط هذا النسيج المتشابك تبرز أصوات، لم تفاجئها هذه النتائج، بعد مضي أكثر من عام ونصف، وهي ترصد الصراع الخفي وتقيس درجة تحكم "غرفة القيادة" في خيوط اللعبة وتوجيه دفة اللعبة وضبط إيقاعها على خطوات العسكر المنتظمة، تحذر من الوقوع في شرك التخويف وبث الشكوك بين فصائل الرافضين للظلم وارتكاب غلطة العمر بالانحياز إلى "وريث" الفساد والظلم. ويرى أصحاب هذا الصوت أن الكثيرين لم يقدروا، بشكل جيد، قوة ومهارة تيار الثورة المضادة في "اللعبة السياسية".
ما حدث، في مصر، هو صرخة غضب ضد الفساد والمظالم فجرها شباب بلا قيادة، وفي بيئة سياسية مترهلة فقدت الحيوية والتنظيم سنين عديدة، وهذا ما يبرر بروز حركة الإخوان المسلمين في الأيام الأولى لأنها التيار المنظم الذي "التقط" الموجة وزاد من قوتها وعمل لحمايتها في ميدان التحرير في اللحظات الحرجة.. وبعد أن هدأت العاصفة شرع الجميع في تلمس خطواتهم وتجميع قواهم، غير المتساوية، فدخلوا معارك بعضها ظاهر وأكثرها خفي. وعندما أفاق "ورثة النظام" المنهار (المجلس العسكري وبقايا الحزب الوطني وأصحاب المصالح والخائفون من تيار الأغلبية) من الصعقة الأولى بدؤوا الحركة والتحكم في "مفاصل" الدولة. وقد ساعدت الأخطاء والاجتهادات التي وقعت خلال العام الماضي والأطماع التي برزت في زيادة مساحة الخوف والتشكيك في "جدوى" المضي على طريق الثورة.
ونتائج الدورة الأولى من انتخابات الرئاسة – بغض النظر عما قيل عن التشكيك في نزاهتها – تشير إلى أن تراكم الأخطاء وقسوة الظروف الاقتصادية والانفلات الأمني جعلت قطاعاً عريضاً من الشعب المصري يقلق ويخاف من ضعف خبرة "التيار الثوري" بكل فصائله ويخشى من المجهول، ويشعر أن الانحياز إلى حال "الجمود" التي اعتادها – رغم فسادها – أكثر أمناً وسلامة من المضي على الطريق المجهول. هذا ما يفسر حجم الكتلة التي صوتت لمرشح "الماضي"، ويمكن تسميتها بكتلة "الخوف من المجهول" المدعومة من فرقة المنتفعين من حماية الماضي. وهذا القطاع المنحاز إلى "الخوف من المجهول" هو الذي فتح الآفاق أمام الجنرال أحمد شفيق أو بالأصح ما يمثله الرجل من "قوة خفية" تقف وراء نجاحه. وهي قوى بعضها داخلي وبعضها خارجي.
الآن بات أمام المصريين خياران لا ثالث لهما: خيار الانحياز إلى "الثورة" بكل عيوبها وأخطائها والعمل على تصحيح مسارها وضبط العلاقة مع فصيل الأغلبية ضمن شروط والتزامات لا تسمح بسطوته أو استحواذه على المشهد السياسي وتوجيه الدولة إلى "اجتهاداته" الخاصة، وإما "العودة" إلى النظام القديم الذي سقطت بعض رموزه دون أن تنهار أدواته وشروط بقائه. ومصر الغنية بفكرها وتراثها الدستوري والقانوني والشرعي والتاريخي وتجربتها الثرية أمام خيارين يحددان مسار مستقبلها وهي قادرة على "تكييف" الظروف وتقدير ما يناسبها والسير في الاتجاه المتناغم مع مشاعر أهلها وتحقيق مصالحهم.. وإذا كان "فصيل الأغلبية" مصدر شكوك وقلق للبعض فإن الجنرال شفيق يمثل رمز "العودة" إلى ما قبل 25 يناير 2010. وهنا تبرز أسئلة أساسية قد تسهم الإجابة عليها في تحديد وجهة انتخابات الإعادة: هل يستطيع الجنرال شفيق أن يجهض الثورة في حال فوزه بالرئاسة؟ وهل قوى النظام الماضي ما تزال تقبض على "مفاصل" الدولة حتى يمكنها "تعطيل" حيوية الثوار أو تعديل مسار الثورة إلى وجهة أخرى؟ وهل مجيء الجنرال إلى رئاسة الدولة قبل تشكيل الجمعية التأسيسية سيوجه صياغة هذا الدستور لإعطاء رئيس الدولة صلاحيات تمكنه من التحكم في مفاصل الدولة حتى وإن كان من خلال مؤسسات دستورية؟ وهل يستطيع البرلمان "المشلول" الذي تسيطر عليه فصائل من اتجاه واحد أن يكون معبراً عن معارضة منسقة تقف في وجه رئاسة ذات صلاحية عريضة تدعمها قوى خارجية وداخلية لها خصومات وحسابات لا تتفق مع توجهات فصيل الأغلبية؟
أسئلة تقف في هذه اللحظة أمام المتابعين لأحداث مصر والمهتمين بظاهرة الربيع العربي في بلد يعتبر "سفينة القيادة" لهذه المنطقة.
قد ترى أغلبية الناخبين المصريين يوم 16 من هذا الشهر أن تعطي أصواتها للجنرال شفيق عقاباً لتيار الأغلبية في البرلمان، وخوفاً من "فزاعة" الدولة الدينية التي عزف عليها تيار الليبرالية وتيارالعلمانية في مصر خلال الجولة الأولى فانحاز الكثيرون إلى "صوت الاعتدال" المتمثل في حمدين صباحي وعبدالمنعم أبو الفتوح.. وقد يعلل البعض التصويت للجنرال، في الدورة الثانية، بأنه ليس رغبة في "العودة" إلى الماضي بقدر ما يترجم الاعتقاد بأن "الجنرال" فرد لا يمثل عمقاً أيديولوجياً وأن السيطرة عليه ممكنة من خلال مؤسسات الدولة المدنية! فهل هذا التحليل أو التقدير دقيق؟.. هل فكر أصحاب هذا الرأي في ما يمكن أن يفعله الجنرال بعد انتخابه؟.. وكيف يمكن أن تقف الدول الكبرى والمستفيدون الإقليميون من "إجهاض الثورة" ليقدموا ما يمكن الجنرال من النجاح في مجال الاقتصاد المؤثر في حياة الناس البسطاء وحينها لن يشكك أحد في شرعيته؟
يبدو أن الرهان على "فردانية" الجنرال وإمكانية "احتوائه" مغامرة غير محسوبة قد تفضي إلى التفريط في مكاسب 25 يناير.