حفر كثير من الشعراء عميقًا في وجدان من سمعوهم، وتجاوزت قصائد عددًا منهم حدود المكان والزمان، ونجحت في تجسيد الحالة الإنسانية، والتعبير عن مضمونها بجزالة.

ومع نجاح هؤلاء إلا أن أبيات شعر لبعضهم ما تزال مثل الأيقونات الخالدة التي تتم استعادتها في مواقف كثيرة، مثل قول المتنبي:

الخَيْـلُ وَاللّيْـلُ والبيداء تَعرِفُنـي *** والسّيفُ وَالرّمحُ والقرطاسُ وَالقَلَـمُ


وكذلك بيت قيس بن الملوح في ديار المحبوب:

وَما حُبُّ الدِيارِ شَغَفنَ قَلبي *** وَلَكِن حُبُّ مَن سَكَنَ الدِيارا

ولم ينحصر خلود الأبيات وبلاغتها في الشعر الفصيح وحده، بل حتى في الشعر النبطي، حيث بقيت بعض الأبيات مخلدة لكل زمان ومكان، منها بيت الأمير خالد الفيصل الذي يقول فيه عن اغتنام الفرص:

إلى صفى لك زمانك علّ يا ظامي *** اشرب قبل لا يحوس الطين صافيها

وكذلك بيت خلف بن هذال الشهير في الحب:

قلبي غدا واستيسره لين العود *** محدن يفك القلب يا سعود منها

كما لم تقتصر البراعة على الشعراء وحدهم، فقد برعت شاعرات كثيرات في الإتيان بشعر خالد، ففي الفصيح بيت الخنساء الدامع الذي قالت به:

قَذىً بِعَينِكِ أَم بِالعَينِ عوارُ *** أَم ذرفت إِذ خَلَت مِن أَهلِها الدارُ).

وفي النبطي قالت كثيرات وغدت أبيات بعضهن أشبه بالأمثال لكثرة تردادها، مثل بيت نورة الحوشان:

اللي يبينا عيت النفس تبغيه *** واللي نبيه عيا البخت لا يجيبه

وبيت الشاعرة مويضي البرازية:

اللي يتيه الليل يرجي النهارا *** واللي يتيه القايله من يقديه؟

وهذا البيت الأخير بقي ترنيمة مستدامة على الألسن بالرغم من أنها مويضي عاشت في القرن الـ13 أو الـ14 للهجرة.

أباعر عرنان

تصنف مويضي (وهو تصغير تحبب لاسم موضي) البرازية واحدة من أشهر شاعرات الجزيرة العربية، وعرفت بقوة العارضة في الشعر، وسرعة البديهة، والحث على مكارم الأخلاق، والإعجاب الشديد بالبطولة والشجاعة والإقدام بتجرد مدهش، ميزها عن شعراء وشاعرات زمانها، فقد امتدحت رجلاً كان مقيمًا بجوار قبيلتها، يدعى «علي بن رمان الخالدي»، قبض عليه الإخوان - وهم بدو رحل، وذلك عندما تركوا البادية وسكنوا الهجر- وحلقوا رأسه، بعد أن كان يرسل إليهم شعر رأسه؛ كعادة أبناء البادية، اعتزازًا عند الحرب، فغضب وفر وقصد بعض القبائل المعادية للإخوان، وفي طريقه مر بإبل «عرنان البرازي» من قبيلة الشاعرة، فاستاقها أمامه، ولم يستطع أبناء قبيلتها أن يدركوه، ثم باع الإبل، فكان لشجاعته ونفوره من الضيم إعجابٌ شديد في نفس الشاعرة، فامتدحته رغم نهبه إبل قومها، قائلة:

يا ونّتي ونة مِفاريْد «عرنان»

تاه المدور والموارد عدنه

غدا بها الشّغْموم «علي بن رمان»

اللي على الصًبيانْ يطول فَنًهْ

اختار جال الله على جال الإخوان

والرزق في يد واحدٍ ما يمنّهْ

حّر شهر مِن دار غبْنٍ وحِقران

وبعض النّفوس الضيم ما يقبِلِنّه

الله يعديهِ أزرها عالي الشأن

عسى عجوزٍ جابته بألف جنّهْ

مديح الأعداء

لم يكن هذا الموقف الوحيد الذي يظهر إعجاب مويضي بالشجاعة، حتى من أعداء قومها، فعندما تصادم «مخلف الدغيلبي» من قبيلة عتيبة، مع قوم الشاعرة مطير، وغلبهم، رغم أنه كان وحده، قالت:

وأديرتي عنها «مخلف» حداني

حدي الظوامي عن بيارٍ بها جم

واحدْ، وخلا الدًم بالقاع قاني

وأبوي لو هو لاحق له ولد عم

إذا انتخى من فوق بنت الحصانِ

الخيل من خوفه تفرًق وتلتم

خلا شيوخ «مطير» مثل السَّماني

أهل السيوف اللي لعافيظها دم

ولم تتأخر مويضي كذلك عن الإشادة بأفعال قومها، حينما وصفت معركة حصلت بين عنزة وشمر، ومجموعة من العشائر، وامتدحت المطران الذين اشتركوا فيها:

صاح الصياح وهلهلن العذارى

والمال جانا كِثر الأزوال حاديه

ركبوا عليهم سربتين تبارى

معاريٍ واللبس ما شال راعيه

ركبوا عليهم غوش «عِلوى» السكارى

الكل منهم عند الآخر يماريه

شوقي غلب شوقك

تميزت مويضي بوضوح العبارة وسهولتها، وجرأتها في الطرح، وصراحة التعبير عن المجتمع وواقعه، وعن نفسها وآرائها، وحتى أمانيها، كما نجد في أبياتها التي تعكس تناقضها فيما تميل إليه من صفات، وبين واقع حياتها التي عاشتها، إذ طلبت الطلاق من زوجها الأول المعروف بشجاعته، وتزوجت رجلا أقل منه شجاعة، مما عرَّضها لانتقاد أختها بنّا، التي تفاخرت بزوجها وانتقصت من زوج أختها، في مساجلة شعرية معروفة، قالت بها بنّا:

شوقي غلب شوقك على هبة الريح

ومحصل فخر الكرم والشجاعه

ركاب شوقي كل يوم مشاويح

وإذا لفى صكوا عليه الجماعه

يالبيض شومن للرجال المفاليح

ولا تقربن راعي الردى والدناعه

فردت مويضي على أختها موضحة المبررات التي دعتها للانفصال عن طليقها الصلف، والارتباط بزوجها، كونها لا تحتمل الصلف، وهو ما يدلل على أن قوة شخصيتها لم تتوافق مع شخص يوازيها قوة:

ما هوب خافيني رجال الشجاعه

ودي بهم مير المناعير صلفين

أريد مندس بوسط الجماعه

يرعى غنمهم والبهم والبعارين

وإذا نزرته راح قلبه رعاعه

يقول يا هافي الحشا ويش تبغين

وإن قلت له هات الحطب قال طاعه

وعجل يجيب القدر هو والمواعين

لو أضربه مشتدة في كراعه

ما هوب شانيني ولا الناس دارين

جَلَد مويضي

مويضي امرأة قوية، امتازت بمعاييرها المختلفة عن معايير بنات جنسها، وكان لوجودها صوت وجلجلة، كما تسببت في طلاقها، تسببت أيضًا في جلدها، حدث ذلك عندما استفز غناؤها بين صديقاتها بعض المتدينين، فاشتكوها إلى الأمير لتتوقف عن الغناء، فأرسل الأمير خادمة سلامة ليأمرها بالتوقف عن الغناء، لكنها لم تلتزم، ما أثار غضب سلامة وأمر بجلدها حتى كفّت، وفي أحد الأيام كانت تشدو بجانبها حمامة، فقالت تنصحها بأن تغني في غير هذا المكان الذي ضربت به، وأن تذهب إلى (القرعة) بلد الوداعين من الدواسر، لأنهم يحمون الجار:

يا سعد عينك بالطرب يا لحمامة

يا اللي على خِضر الجرايد تغنين

عزي لعينك وان درى بك سلامة

خلاك مثلي يا الحمامه تونين

كسر عظامي كسر الله عظامه

شوفي مضارب شوحطه بالحجابين

جاني يقول: مروحينه عمامة

الله يخرب ديرة لا صفر العين

إن كان ودك بالطرب والسلامة

عليك بالفرعه ديار (الوداعين)

تنحَري ربعٍ تفكً الجهامه

فكاكة القالات بالعسر واللين

دخيلهم ما حدٍ على الحق ضامه

لو هو ضعيف الحال ما يلحقه دين

ذاكرة الأيام

لم يرد تاريخ قاطع للفترة التي عاشت فيها مويضي، وورد أنها عاشت في القرن الـ13 الهجري، في حين قال متتبعون لشعرها إن لغة أبياتها تشير إلى زمن أقرب إلى مطلع القرن الـ14، خاصة مع اقتران قصة جلدها بالإخوان، فعندما تترامى شهرة القول وتتناسب مع عدد من الأزمنة يصعب تحديد الهوية لصاحب الشعر، ما يجعله يعيش الأزمنة كلها.