كانت ولا تزال مصادر التلقي وأصول الاستدلال من أهم المسائل التي تُشغل بال كل من تلقى معرفة، وكان ولا يزال يطلب العلم، وكانت تلك المسائل من الأمور الفاصلة بين التيارات الفكرية الدينية بشتى مناهجها وطرقها، وبين التيارات العلمانية وغيرها ممن لا يجعل الدين عاملاً مؤثراً في فكره وتصوراته.

ومصادر التلقي هي الأصول التي تتأسس عليها المعرفة، ومن خلالها يمكن التفرقة والتمييز بين الأمور المعروضة من قبل من يملك عقلاً، فيمكنه استمداد الأحكام للسير، والمضي في كشف غوامض ومستجدات هذه الحياة الدنيا. والتلقي له صورتان وطريقتان لا يمكن أن تخرج عنهما أي فئة أو ملة أو ديانة أو طائفة أو تيار مهما اختلفت التوجهات وتناقضت الرؤى والتصورات.

الصورتان والطريقتان هما النقل والعقل، والمقصود بالنقل هو أنه (مصدر تشريعي إلهي يتعلق ببعث الأنبياء والرسل)، وهذا مسار الأديان السماوية المتلقاة عن طريق الوحي، وطريقة إنزاله من الخالق المصور المبدع لهذا الكون، للمخلوقين لإرشادهم وهدايتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور.


أما العقل فيُقصد به تلك النظم والقوانين الحاكمة على أمور التصورات والتصديقات التي يحكمها ويميزها العقل، ويفرق بين رديئها وسقيمها، وصحيحها وباطلها، وهذا يشترك فيه كل أحد خُلق وأوجد على وجه الدنيا وتنفس من هوائها ممن ينطبق عليه مسمى الإنسانية. فأصل مصادر التلقي الشرعية في الدين الإسلامي النقلية هي الكتاب المنزل والسنة المأثورة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وهذان المصدران عليهما إجماع علماء المسلمين إجمالاً، وذلك لأن التفاصيل في مسائل الكتاب والسنة فيهما اختلافات كثيرة في كيفية طرق الاستدلال بها، وفي ثبوتها وطرق تنزيلها وكيفية تأويلها وفهمها. والاختلاف في الربط الزمني والتاريخي لتلك النصوص بمقاصدها الكلية ومعانيها الظاهرة والمجملة والمبينة والمشتركة، وكذلك الاختلاف في عمومها وخصوصها.

فهذا الطريق من التلقي قد أصابه خلل كبير جداً في عصورنا المتأخرة وخصوصاً وقتنا المعاصر، حيث إنه تم ربط كيفية فهم هذين المصدرين النقليين من مصادر التلقي بحقبة زمنية ماضوية وهي حقبة السلف، فتم بهذا الربط إيقاف العقل الإنساني عن التفكير وشله عن الحركة بسبب أن الفهوم قد وصلت إلى منتهاها وأدركت مبتغاها، فلا يمكن فهم مصادر التلقي النقلية إلا عن طريق ما فهمه السلف.

ونتج عن مسألة الإلزام بفهم السلف أن أصبحت مسألة إحداث قول ثالث في مسألة انتهى فيها عصر التابعين أو الصحابة، على أن الاختلاف فيها على قولين مسألة عويصة لدى كثير من طلاب العلم من شتى التيارات الديني، سواءً أكانت تياراتٍ تقليديةً أم كانت جهاديةً فكريةً تقدميةً، تنتهج في مساراتها خطى اليسار الشيوعي والعلماني، فقد أغلقت التيارات الدينية التقليدية الباب أمام إحداث أي قول مهما تغيرت الظروف وتبدلت الوقائع وانقلبت المعاني وتجردت المقاصد من محتواها، فلا جرم أن هذا القول كان سببًا وعلةً لكثير من أفكار التطرف، وانتهاج إطراح أصول العلم ومباني اللغة وقواعدها الضابطة للعقل التشريعي في أصل تنزيله.

وهذه نكتة مهمة لم ينتبه لها كثير ممن تصدّر للمشهد المعرفي الديني، فكان خطؤه في هذا المسار باباً لتسرب كثير من أفكار وتصورات التيارات الدينية المنتهجة لركب السياسة والتطلع للحكم والسيطرة على منافذ المجتمع في (كليات) مساراته.

هذه المسألة في نظري كان سبب الخطأ فيها ناتجاً عن القاعدة المذكورة آنفاً، التي أسسها المتأخرون في هذا العصر، وهي أن طريق فهم النصوص التشريعية النقلية هو أن يتم قصره على فهم السلف، وما عدا ذلك فهو ضلال وخروج ومروق عن أصل جادة الشريعة. وهذه القاعدة مصادمة للشريعة في أصلها ومصادمة لقواعد اللغة العربية ومنهج الفهم والتأويل الذي أسسه و(قعده) جل كبار علماء العربية.

بل إن العربية في لغتها لو انتهجت تلك القاعدة لأصبحت لغة شاذة وغربية و لعجزت عن فهم كثير من النصوص.

أما مخالفة قاعدة القول إن النصوص يجب ويتحتم فهمها بفهم السلف للشريعة الإسلامية ونصوص الكتاب والسنة، فإنه لا يوجد دليل صحيح صريح في إلزام أمة الإسلام بفهوم رجال عصر من العصور، ولو كان ذلك سائغاً لأتى النص على حجية فهم الصحابة، بيد أن الشريعة خلت من مثل هذا الإلزام لأنها شريعة وُضعت لكل زمان ومكان، تتكيف وفق الظروف والمتغيرات، وهذا الذي جعلها شريعة ربانية.

ثم إن هذه القاعدة مبهمة ومجملة، ولقد تقرر عند علماء الأصول والمنطق أن الاستدلال بالمبهم والمجمل منقوض وغير صحيح، ولا يمكن جعل قول مبهم ومجمل أن يكون دليلاً وذلك لحاجته إلى التبيين والتوضيح .

ولغة التشريع وهي العربية قائمة ومتأسسة على التبيين والتوضيح، ومدرك الإجمال في هذه القاعدة أن عبارة السلف لا يمكن تحديدها بفترة زمنية محددة تكون قاطعةً في دلالاتها، ومن قصر عبارة السلف على عصر دون عصر فإنه يكون قد أسقط استدلاله بما يُقرره علماء المنطق والاستدلال أنه تحكم وعبثية لا تليق بمن نصب نفسه أنه مستدل بنصوص الشريعة. ولا تزال هذه المسألة من أمهات المسائل في ساحة الأفكار والتصورات الدينية لدى كل التيارات، وهي مسألة تمثل الوقود والحافز لكل فكر متطرف.

لهذا فإن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق المؤسسات التعليمية والثقافية لإظهار عوار مثل هذه المسائل، وبيان أن مسألة الإلزام بفهم السلف لتأويل النصوص هي مسألة تجعل العقل متوقفاً عن الحركة، ويلتزم بالسكون الذي يُفقده أصل خلقته التي وهبها إياه الخالق المبدع، وهي التفكر والتأمل والحركة في هذا الملكوت، وإن توقُّف العقل عن التفكير هو توقف للحياة الإنسانية، ومن لم يفهم المراد بخطورة هذه المسألة فحري به ألَّا يتصدر المشهد العلمي والثقافي لمجتمعات تتطلع للتطور والتنمية، والانطلاق في ركب الأمم المتحضرة التي سبقتنا بكثير.