من يعرف الشاعر الراحل حسب الشيخ جعفر، يعرف أنه كان زاهدًا بحضوره الشخصي في المهرجانات الشعرية، لكنَّه يشّع بقصائده بعد انقاطعه عن الشعر مدة طويلة. ولجأ إلى العزلة والزهد في الأدب وأصدر رواية ومجموعة قصّصية واحدة، وقد يسأل القارئ لماذا الشاعر المعتزل عن الحضور الثقافي كان شعره حاضرًا في مواقع التواصل؟ ولماذا انقطع عن القصيدة لسنوات؟ هذا التساؤل يجيبه الشاعر نفسه في سيرته التي كتبها بحياته، والتي ستصدر قريبًا. وهل ذاته تعيش بسلام بعيدًا القلق والأرق والخيال أو كما وصف السياب حالة كتابة الشعر قائلًا: جنازتي في الغرفة الجديدة

تهتف بي أن أكتب القصيدة

فأكتب ما في دمي وأشطب


حتى تلين الفكرة العنيدة.

ولا نسعى إلى تشويق القارئ أكثر لكنَّها مجرد تساؤلات قد نجيب عليها من قصائد الشاعر الذي نحن بصدد الحديث عنه الذي وصفه صديقه الدكتور خالد علي مصطفى بكتابه (شعراء خارج البيان الشعري) قائلًا: ظّل حسب الشيخ جعفر على صورته مثل تلك القُبّرة التي وصفها الشاعر الإنجليزي شلي: قمرًا يفيض شعاعه من وراء الغيوم من دون أن تراه، فإذا ما رأيته فإن رؤيةَ العين لا تحجب رؤية الشعاع، بل تزيدها تألقًا. فهكذا أفاض مؤخرًا شعاع قصيدة الشاعر حسب الشيخ والتي تتصارع فيها ذاته، مسائلاً: أأعود أم لا أعود؟ وقصيدة (آخر الطريق) تفصح عن قلقه وتساؤلاته: أعلنتَ يا شيخي الرحيلَ عن (النصوص)

وبلا التفات أو نكوص

فَلِم التلبّث ها هنا أو ها هناك

أو لستَ تخجلُ من تسلقكَ السلالم والرُبى

ومن الرجوع إلى الصبا؟

(آخر الطريق) العنوان العتبة النصّية الأولى التي تضعنا نحو اسّتسلام الشاعر للسلام الداخلي والبعد مراسيم جنازة القصيدة، فالنصُّ ممتلئ بالتساؤلات والقلق والذات انقسمت إلى قسّمين، ذات شيخ كبير، وذات شاب غير أن الأدوار اختلفت فالشيخ يحمل روح الشاب المشاكس والشاب روح الوقار والشيخوخة، فيشتدُّ الصراع الذاتي وهو أأعود أم أعتزل؟ فتهيمن ذات الشاب:

يا شيخُ رفقًا بالوصايا

ما الشيوخ والمرايا؟

كم قد نُصحتَ وكم أبيتْ

فيما سواها والتقيت

حُمرَ اللحى، صُفر الحَدق

يعلو أكفَّهمُ، ويختمرُ الدبَقْ

يا شيخ دع عنك الحروف

أو لا فتلك هي الجروف

فاشدُد إلى العُنقِ الرحى

وقُبيل مقتبل الضحى

فإلى القرارةِ والقرار

وبلا انتعالٍ أو فرار

ويهزّني التليفون هزًّا بالنقيقْ

فإلى الطريق إلى الطريق

وإلى انتظار البنت عند السينما

صوتان في النصّ يكشفان عن الصراع الذاتي عند الشاعر، فالأوّل يا شيخ صوت الذات اللَّوامة التي تُغلّب العقل على العاطفة وتجمّل طريق الشيخ البعيد عن الحرف بالقابل تصفه بالجروف (فتلك هي الجروف) الجملة تشير لخلاصة التجربة الشعرية مفادها: إنَّ الشّعرَ منزلقٌ كبير في البحث عن الوجود الإنساني. ولإنهاء الصراع الذاتي يقضي الشاعر على الذات اللوامة الأولى بقوله: فإلى القرار، وبلا انتعال أو فرار. يظهر الصوت الثاني هو الشاعر حسب ليفصح عن شعوره بلحظات العودة إلى عالمه (يهزني التليفون) فاستعمال هذه الجملة وإدخال لفظ التليفون في القصيدة يكشف عن وعيه التام بحداثة الحياة وما الشعر إلا صورتها وما يحمل التليفون من دلالة التواصل والاتصال التي تحسم أمور عودة الشاعر الشعرية المكلّلة بالمرأة والسينما، الواهبةُ الروح للشّعر. فتأتي قصيدة أمّي وتستفز ذاكرة الشاعر:

أماه كنتِ تصححين بلا توان

ما كنت أكتبُ من فصول

أو كنت تملين الفصول عليّ من حين لحين

فإذا علا في هدأةِ الليل النباح قلتِ: اطمئنّ ونم قرير العين أمّك لن تنام.

تكرار الفعل الماضي الناقص (كنتِ) ما هو إلا استحضار للذاكرة الطفولة التي كانت الرافد الأول لتمد الشاعر بالإلهام وتأتي المرأة لتكون مؤسسًا للنص مع الشاعر (تصححين بلا توان ما كنتُ أكتب) فتصبح الطفولةُ والمرأةٌ رافدين للشعر، ومن جانب آخر يسعى الشاعر إلى تأنيث النسق الشعري واعتناق الوجود الإنساني، فالحكايةُ أنثى والكتابة والقصة فيقول بقصيدة قطر الندى: أنا لم أكن إلا صبيّا

كانت عبائتها الحريرُ فراشنا

كان الإزارُ غطاءنا

والبيدر والسرير.

كانت تَقصُّ عليّ عن نسرٍ أحبَّ أميرة، وعن اختطاف.

نلحظ تصدر الفعل المضارع المجزوم بـ(لم) وهذا الفعل يجزم حالة استرجاع الشاعر إلى ذكريات الماضي ويقر بحالته الآنية (إلا صبيا)، فتنهض الذات بروح الصبا متخليًا عن أنساق الفحولة التي احتفت بها الشعرية القديمة، فيظهر نسق الذات الشاعرة متحليًا بالقيم الإنسانية، وتشترك الحكاية من جهة والأنوثة من جهة أخرى، بوصفها نسقًا أنثويًا، كما أشار الدكتور عبدالله الغذامي، و(كانت تقص عليّ) تظهر الذات المنكسرة بحاجة إلى الآخر الذي تكتمل الحياة به.

القصائد التي اخترتها هي مكتوبة حديثًا في سبتمبر 2021 للشاعر حسب الشيخ جعفر بعد عزلة شعرية طويلة، فلم تكن هذه القصائد خلاصة تجربة بقدر ما كانت بداية شعرية جديدة بتجربة ناضجة، وكأن الشاعر يقول هذا هو الشعر أن تهجره يهجرك، وأن تبحث عنه لا يأتي إلا وقت ما يريد.