قال: قد نظر إليَّ، قالوا: فماذا قال؟ قال: إني فَعَّال لما أُريد» في إشارة إلى آية: «إنَّ ربك فَعَّال لما يريد».
وتخصيصُ هذه العلامة، على أساسِ تحديد هويةِ الطبيبِ المُنتظَر لحظة الاحتضار، ومن ثم فإنَّ الجامعَ للروايات هو: بماذا يتلفّظ الإنسانُ لحظةَ احتضاره؛ مما يكشف عن وديعةٍ مخبأة في أعماقِ النفس. وفي الوقتِ نفسِه تكون الرواية إما كاشفة عن سياقِ تَغَيُّر هذه الوديعة، أو ثباتها.
ولم يكن المؤلفُ، كحالِ المُحقق؛ إذ المؤلفُ لا يقطع بحالِ المرءِ عند الموت -بصفتها تعبيرًا عن حالِه في غالبِ حياته- وعلامة ذلك المرويات المختلفة، بين معارف، ومجاهيل في سياقاتٍ متفاوتة، والنتيجة تُدهِش باتساقِ سياقها، أو بعكسه.
سَتركِز المقالة على خمس عشرة مروية؛ لها دلالة الجامع لما قبل/بعد، اعتمدت على «تلقين الموتى لا إله إلا الله»؛ إذ ينتظم هذا المعنى في معنى الواحديّة المقابلة للتثنية أو التعددية، الواردة في الطريقين السابقين (ربّات)، ولهذا جاءت معانيه مُناقِضة.
فالمعنى الأول: اعتمدَ تلقينًا مُعاكسًا، يبدأ من الجلساءِ إلى المُحتضِر، بينما في الطريقين السابقين تنطلقُ من الذاتِ المحتضِرة.
والثاني: اعتمدَ وصفَ هذا التلقين، وماهيته، بينما يكتنفُ الغموض الوجودي ماهية التلقين في الطريقين السابقين.
والثالث: جاء لفظ «لَقِّنوا موتاكم» على سبيل الدعوة لمحو مفهوم الوديعةِ السابق، كما تؤكد المرويةُ الثانية: «فإنها تهدم كُلَّ ما كان قبلها»، وكذلك فإنَّ هذا اللفظ يقول -بمفهومه- إنَّ كُلَّ ميّتٍ يستطيع نُطقَ الشهادة، لكنَّ المانعَ -إن وجد- شيءٌ آخر.
وستبين المقالة أنَّ ثمة تَعارضات تُخَلخِل هذه البنية؛ من خلال الزيادات على الرواية الأصل؛ ففي الرواية الرابعة، جاء: «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة»، والعلم -هنا- يُعيدنا إلى عزاءِ بوئثيوس في مُعالجةِ التنافرِ الظاهرِ بين حُريةِ الإرادةِ الإنسانية، وسابقِ العلمِ الإلهي؛ وستكون لفظة (وهو يعلم) آتية من علمِ المحتضِر النسبي، ومن ثمَّ تكون معرفة المحتضِر -حينئذ- وفقا لقدرته، لا لطبيعة الشيء المعروف/المدرك، وأما لفظة (دخل الجنة) فآتية من علم الله الذي هو إدراك الشيء قبل وقوعه، والمعرفة التامة والمطلقة، فهل المعرفة -هنا- بدخول الجنة هي وفقًا لقدرة الله لا لطبيعة الشيء المدرك أيضًا؟
النصُّ -بحسب الطريق الأول/بوئثيوس- سيكون كاملًا، باعتبار أنَّ سبق العلم الإلهي لا يُضفي ضرورة على ما سوف يَحدث مُستقبلا، ومن ثم فإنَّ المحتضِر -هنا- نطق بإرادته أن لا إله إلا الله، مُستلزمًا علمه بها.
وأمَّا بحسب الطريق الثالث فهو ناقص، ومفتقر لسدِّ الفجوة الحاصلة بين علم المحتضِر، وعلم الله، على سبيل أنَّ علم الله -هنا- يُضفي ضرورة على ما سوف يحدث مستقبلا، وعلامة هذه الفجوة ما جاء في الرواية الثامنة: «احضروا موتاكم وذكِّروهم، فإنهم يرون ما لا ترون، ولقنوهم الشهادة» إذ يأتي السؤال: يُذَكَّرونَ بماذا؟
كأنَّ ثمة وديعة اتُفِقَ عليها، وجلساء المحتضر في صفاءٍ من أمرهم، حيث لم يَبهتْهُم ملكُ الموت، فيُذَكِّرون المحتضِر بهذا الاتفاق. هذا التذكير بالوديعةِ يُشتّت مفهومَ علمِ المحتضِر النسبي، ويُسائله: كيف عَلِمَ أن لا إله إلا الله، دون أن يكون ثمة ضرورة اقتضاها سبق العلم الإلهي؟.
وهذه الرواية مع الرواية التاسعة تُشيران إلى سببِ التلقين المعاكس، وهو طلب الغفران، والسؤال المقابل لهذا: غفرانٌ مِمَ؟
الرواية التاسعة غريبة المتنِ؛ لكنها تُطلِعنا على مخيال العقل، وهو يُشَرِّح المعاني على خشبة الألفاظ؛ حيث قَسَّم أفعالَ أعضاءِ الجسد إلى ظاهر وباطن، والظاهر قُسِّمَ إلى جزءٍ مُشَرِّعٍ، وجزءٍ مُنَفِذٍ، فأما المُشرِّع فهو اللسان، وأما المُنفّذ فباقي الأعضاء ما عدا القلب، حيث له فعل الباطن.
إلا أنَّ الرواية تُشير إلى خُلوّ قلبِ المحتضِر من الخير، فإذا خلا القلبُ فَمِمَ نَطق اللسانُ ليُغفَر له؟ هل الوديعة ترتكز على المُشرّع/اللسان؟ هل اللسان ليس مجرد صورةٍ لفعل القلب؟
وإذا لم يكن اللسان صورةً، فكيف سَتُغطّى الفجوة -في سياقِ الغفران الأخروي- بين سيرورة الأعمال القلبية، وما ينطقه اللسان ويتحكم فيها كمنطق فكري؟
هل هذه الفجوة لها ارتباط بنوعِ الغُفران، وهو المعقود بتغَيُّرِ الوديعة قبل الاحتضار وأثنائه؟ إذ لدينا في الرواية الثامنة لفظ «ذَكِّروهم، فإنهم يرون ما لا ترون» فيكون اللسانُ أهمَ من القلب، المنتمي لعالمٍ ليس من عالمِ الإنسان، وهل هذه الأهمية سترفع الاستدلال العقلي/اللساني فوق الاستدلال القلبي/الوجداني؟
أم نُحوِّل السؤال إلى: سبب اختيار المؤلف لهذه المرويات تحديدا من بين آلاف المرويات؟
هل هي أفكارُ قلبِه من جهة الجمع، وأفكار قلوب هؤلاء الساردين من جهة الرواية؟
ومن ثمَّ فجمع المتضادات في الكتاب -مثلا الرواية الخامسة عشرة يمنع فيها القلبُ اللسانَ من النطق، وهذا يعارض الرواية التاسعة- هل يعني أنَّ أفكارَ العقل/اللسان تقاوم أفكار القلب/حكايات الحياة؟
ومن ثمَّ نلتقط خيطَ الفجوة بين الحياة وحكاياتها، ولحظة الاحتضار التي تُرفع بها ستارة المسرح، وينتهي دور المـُخرج؟
لهذا نرى في الرواية الحادية عشرة والثانية عشرة، أنَّ المُحتَضِر يقول للجلساء: «لقَّنوني»؛ وكأنَّ التلقين -بحد ذاته- ضروري، حتى لو كان مُتذكِّرًا للشهادةِ بنفسه، أي كأنَّنا أمام عملية لا بدَّ أن تَتم بصورةٍ محددة، حتى يكتمل الغفران، وقد يُعطِي معنىً بأنَّ التلقينَ هو التذكير نفسه، أي حين تختلط النوافذُ -نافذة مُحتضِر، ونافذة جلساء- فإنَّ حُجَجَ المحتضِر -حينها- مختلفة عن حُجَجِ الجلساء، ومن ثمَّ احتاجَ للتذكير، وهذا يعضد مفهوم تغير الوديعة من جهة، ومفهوم العلم بالشهادة بين الحياة الوحدانية والحياة الثنائية والتعددية من جهة أخرى.
إلا أنَّ الروايتين الثالثة عشرة والرابعة عشرة يَنطِقُ فيها لسانُ المحتضِر من جَرّاءِ سياقٍ مُختلفٍ عن التلقين الواعي، لكن لابدَّ من استحضار السياق الأكبر، وهو أنَّ المحتضِر يهودي، ومن ثمَّ فإنَّ التلقين أخذ صبغة الدعوة المباشرة، وهذه قد تُفسِّر بعض مضامين الوديعة المتفق على التذكير بها.