من وجهة نظر المفكر المغاربي مـحـمـد عابد - الجابري بقي الفكر الـقـومـي الـعـربـي أسـيـر نـزعـتـه المركزية والشديدة التمركز حول مصر وبلاد الشام، أي بلدان المشرق العربي، وهذا ما جعله عاجزًا عن رؤية ما يجري في الأطراف، أطراف الوطن العربي وبالأخص بلدان الخليج الـعـربـيـة وبلدان المغرب العربي التي رفدت الخطاب القومي والخطاب العربي المعاصر في الـفـتـرة الأخـيـرة مـن قـرننا المنصرم بمساهمات نقدية ونظرية، أسهمت في تعديل مجـال الرؤية.

لكن المركزية المشرقية الرازحـة تحت وطأة الأيديولوجيا الـقـومـيـة المفـوتـة والأيديولوجـيـات الكونية المستعارة، بقيت عاجزة عن الحراك في سبيل تجديد نفسها، وبقيت رؤيتها حسيرة لأطراف الوطن الذي تزعم تمثيله والتحدث عنه بالنيابة.

ما دفعني إلى هذه المقدمة المقتضبة التي أعيب فيها على الخطاب الـعـربـي جـهـلـه ومـركـزيته، هو، سماعي خبر وفاة العلامة السعودي حمد الجاسر، فالشيخ الراحل عـلامـة بـحـق كـمـا تـشـهـد على ذلك مؤلفاته التي طاولت مدنًا وجغرافيا وأنسابًا والتي تجـعـلـه في مصاف المؤرخين الكبار والنسابة مثل الطبري والدموي، ولكن الخطاب العربي في الكثير من بلدان المشرق العربي يجهله، وأقـول يجهله لأن الخطاب العربي المعاصر بقي مشدودًا إلى ربقة الأيديولوجيا وإلى النموذج الغربي.


في رأيي أن الشيخ حمد الجاسر رحمه الله، كان وكما تشهد مؤلفاته وفيًا لتقليد عربي عريق في كتابة التاريخ ومعجم البلدان (بلدان الجزيرة العربيـة) ووريثًا شرعيًا في كتابة علم الأنساب كما يشهد على ذلك كتابه «جمهرة أنساب الأسر المتحضرة في نجد، 1981، والذي يرتقي فيه إلى مستوى الأعمال المهمة في تراثنا العربي.

وأشير إلى «جمهرة النسب» لابن الكلبي، و«نسب قريش» للزبيري، و«نسب الأشراف» للبلاذري. كما أنه يرث من جهة أخرى ذلك التقليد العريق العلمي في كتابة المعاجم، سواء منها الذي يتعلق بمعجم البلدان كـمـا فـي كـتـابـه «المعـجـم الجغرافي للبلاد العربية السعودية» في نسخته المختصرة (الرياض، دار اليمامة)، وكذلك «المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية، وكذلك كتابه المهم «في شـمـال غرب الجزيرة: نصوص وأبحـاث جغرافية وتاريخية عن جزيرة العرب، 1970».

شخصيًا لم أتعرف على الشيخ العلامة حـمـد الجاسر إلا في أواسط عقد الثمانينات. وقد شاءت الصدف أن أطلع على مـعـجـمـه الـجـغـرافي للـبـلاد الـعـربـيـة السـعـوديـة فـي مـكـتـبـة أحـد الأصـدقـاء السعوديين. وكان هدفي أن أطلع على عمله «معجم قـبـائل المملكة العربية السعودية» وذلك في إطار اهتمامي بالبداوة وبعلم الأنساب، ولقد شقيت تمامًا حتى حصلت على هذا الكتاب ومرد شقائي يعود الى أمرين.

الأول أن المكتبة المشرقية التراثية لا نعرف شيئًا عن هذه الأعـمـال المـهـمـة، وبـالـتـالـي فـهـي لا تقتنيها، والثاني هذا الجهل واللامبالاة التي يبديها المثقف التقدمي تجاه هذه الأعمال التي تتمحور حول نشاطات تقليدية (علم الأنساب ومعجم البلدان)، لا يأبه له المثقف ولا يريد أن يقتنيها؟

وقد دفعني هذا الاهتمام بين حين وآخر الى متابعة ما يكتبه الجاسر في زاويتـه الأسـبـوعـيـة في جريدة الرياض والتي تندرج في صـفـحـة «حـروف وأفكار» من انطـبـاعـات وجغرافيا والأهم من تحقيقات كان آخرها: وعلى حلقات، تحقيقه عن «الإمام محمد بن علي الشوكاني وموقفه من الدعوة السلفية الإصلاحية»، الذي بدأه في جريدة الرياض بتاريخ ٢٠٠٠/۷/۱ وكأن الرجل يأبى أن يـفـارق الـحـيـاة قـبـل أن يبلغ رسـالـتـه ومـا أطولها من رسالة، وما أقصده برسالته تلك المقدرة الجبارة على المتابعة والتحقيق والانتقال من نص الى آخر مع أنه قد بلغ من العمر عتيًا، وهذا جهد يفوق طاقته، لكنه يأبى إلا أن يكون منارة للأجيال، ونموذجًا يحتذى في السعي وراء الحكمة أينما كانت لأنها ضالة المؤمن كما جاء في الحديث الشريف.

2000*

* باحث و كاتب سوري «1951- 2007».