جلسات الاسترجاع
يوضح المناع في المقدمة، دافعه لإصدار كتاب عن الثلوثية كصالون أسبوعي تجاوز عمره نصف القرن، حيث كان لابد من الكتابة عنها، كما قال قبل أن يضيف: (كان من حسن الحظ أن لاقت فكرة الكتابة عنها الاستحسان من صاحبها الصديق العزيز الأستاذ محمد سعيد طيب، لتنعقد بعدها جلسات (استرجاع) لتاريخ (الثلوثية) وجلسات (استحضار) لحكاياتها وخصومات وطرائف مثقفيها، و(استجماع) لـ (أجوائها)، تولى برمجتها وهندسة مواقيتها ببراعة وإتقان صديقنا العزيز المشترك السيد عبدالباسط رضوان، مع توجيه الدعوة -من قبله – لعدد من رواد الثلوثية، لمشاركتنا جلسات الاسترجاع والاستحضار حتى نقدم معا نسيج تلك الأمسيات – بالتذكر والمراجعة – على أقرب صور التماثل معها).أحاديث الآباء
لفت المناع للبدايات الأولى لنشأة الثلوثية إذ انطلقت من (مكة المكرمة) تأسياً بما كان يسمى آنذاك بـ(ثلوثية السطوح)، التي كان يعقدها والد محمد سعيد الشيخ (عبدالله طيب) مع عدد من رجالات مكة ووجهائها مساء كل ثلاثاء في أحد أسطحة منازل حى (المعلاة) الشهير، من أمثال الوجيه: الشيخ محمد عرابي سجيني، والشيخ جمال سقا، والشيخ حمادة خوج، والشيخ محمد علي خوقير والد الأديب المعروف الدكتور عصام خوقير، والشيخ محمد نور خوقير، والسيد عبدالوهاب نائب الحرم والد السيد أحمد عبدالوهاب نائب الحرم، رئيس المراسم الملكية، والتي كان يحضرها اليافعان آنذاك من أبنائهم: (محمد سعيد) ابن الشيخ عبدالله طيب، و(سعود) ابن الشيخ محمد عرابي سجيني، حيث كانا يتسللان إلى مجلسها في ذلك (السطح)، ويجلسان في آخر المجلس، ليستمعا مبهورين إلى أحاديث الآباء الكبار عن شؤون (المجتمع المكي) وشجونه، وفي صدارتها: مواسم الحج والعمرة وشؤون الطوافة، وإيجارات من فيما بعد.
وإذا كان " التاريخ والتأريخ والتوريخ يعني في اللغة العربية الإعلام بالوقت "، فإن الكتاب لم يذكر أي تاريخ في هذا الشأن وفق ما يقتضيه هذا اللون من الكتابة، وهذا ينسحب على جل ما أورده في الكتاب عن الثلوثية، ولكن يبدو أن المناع - رحمه الله - لم يكن معنيا بالتوثيق التاريخي باليوم والشهر والسنة (على أهمية ذلك معرفيا)، قدر انصرافه لتداعياته الحميمة والمحبة حول الصالون، حكاياته وقفشاته وطرائفه، وتدوين آرائه وانطباعاته، ولعله إحتاط احترازا لملاحظة كهذه، بالعنوان الفرعي للكتاب ( المثقفون .. وحكاياتهم).
إمبراطور الصحافة
في استرجاعه لانطلاقة (الثلوثية) في مكة يؤكد المناع على أن (أمسيات الثلوثية) التي دخلت عقدها (الخامس) منذ إطلالة عام 2015، لم تبدأ من فراغ ولكنها انطلقت من (بدايتين) مختلفتين: زمانا ومكانا.أما البداية الثانية أو (ثلوثية الصالون) فقد بدأها الشاب (محمد سعيد طيب): الموظف المقال من وظيفته، مدیر مكتب وزير الحج والأوقاف - آنذاك - محمد عمر توفيق، بعد عودته من غيبته الطويلة، والتي امتدت به لخمس سنوات ونصف متلاحقة من (الصمت) و(الوحدة)، اللذين – ربما - شكلا باعثاً رديفاً لـ(إقامته) لأول (ثلوثية) في مدينة جدة بـ(حي الشرفية) في أواخر عام 1974م. ( لاحظ عدم الإشارة للتوقيت بدقة) بعد أن تعب – خلال تلك السنوات الطوال صمتا ووحدة، هكذا كانت البدايات التاريخية: (التأسي) بـ(ثلوثية السطوح) في مكة، التي كانت – تمثل بحق – الحافز الأول لإقامة (ثلوثية جدة)، كما كان ذلك الصمت الموحش والطويل الذي أهله وشكل حافزاً رديفاً، تزامن مع تعيينه (أول مدير عام) لـ(أول شركة إعلامية إعلانية) تنشأ في المملكة، ويكون مقرها الرئيسي: مدينة جدة، هي: (شركة تهامة) للإعلان والعلاقات العامة وأبحاث التسويق، التي دعا إليها الوجيه علي شبكشي مع مجموعة من رجال الأعمال، على أساس فكرة جديدة تدخل عالم الصحافة المحلية لأول مرة!! تقوم على (فكرة): شراء المساحات الإعلانية مسبقا، ثم القيام بـ(تسويقها) وبيعها على الشركات والمؤسسات التجارية ووكالات الإعلان في الداخل والخارج، وفق عقود ملزمة بين: (شركة تهامة) والمؤسسات الصحفية، ولذلك سرعان ما سمي (الطيب) بـ(ملك الصحافة) أو (إمبراطور الصحافة).. باعتباره (الممول) الفعلي الأكبر لها.
من (ثلوثية السطوح) إلى (ثلوثية الصالون)
يتأكد عدم التفات المؤلف لأهمية التدقيق التاريخي حين يتطرق للبداية بقوله: (بدأت (ثلوثية الصالون) في جدة لأول مرة في أواخر عام 1974م وأوائل عام 1975م، بعد عودة الأستاذ محمد سعيد طيب إلى جدة من غيبته الطويلة الموحشة، واستقراره بإحدى فلل حي الشرفية، بـ(لقاءات) شبه يومية مع أصدقائه وزملائه والمتعاطفين معه، كان في مقدمتهم صديقه الدكتور فايز بدر – رئيس المؤسسة العامة للموانئ ووزير الدولة وعضو مجلس الوزراء، وابن (مدينته) الدكتور محمد سعيد فارسي: الشخصية الجاذبة آنذاك بـ(شخصه) وبـ(موقعه) كـ(أول) أمين في المملكة لـ(مدينة).مناقبية وتنويه
في الغالب أن المناع في كتابه هذا الذي كان - ربما - آخر كتاب انتجه قبيل وفاته - رحمه الله - في 21 يناير 2021 عن 82 عاما ، كتب سطوره بحس " الصحفي/ الفنان / الراصد / المشاكس"، لا بروح " الباحث التاريخي " الكاشف ، وبدا سرده سريع الإيقاع ، كمن يلاحق ضوءا ينفر أحدهما من الآخر ، في سطور ، ومراوغا في سطور أخرى ، يدلقها بخفر باختصار ورعشة، كمن يخطف شيئا من والده، لا يريد أن يلحظه ، ولا بأس إن رآه آخرون ، إذ يظهر جليا أنه كان على عجل، وأنه لم يكن بصدد أن يؤرخ أو يوثق ، إنما اراد أن يقول ما بخاطره خارج البحث التاريخي .. بعيدا عن الأطر المنهجية لهذا اللون من فنون الكتابة ، ويتضح هذا بجلاء في اغفاله للتواريخ ، والمناقبية الجمة التي ميزت لغته عند ذكره من يظهر انه كان يحمل لهم ودا، وتقليله من شأن سواهم، ممن اختلف معهم، أو ليس لهم قبول لديه، بل تجاهل تام لعدد من هؤلاء، و يعضد هذا، استدراك حملته الصفحة الأخيرة من الكتاب بعنوان " تنويه" جاء فيه: ( يعتذر المؤلف وصاحب الثلوثية .. ومعهما الأصدقاء المتعاونون .. لأي من رواد الثلوثية وضيوفها .. ممن سقط إسمه ! إن عمر الثلوثية .. نحو نصف قرن .. ومرت عليها أجيال وأجيال .... فنلتمس المعذرة !وللجميع كل المحبة والتقدير ...).صحفي متواضع
يسرد الكتاب مواقف وحوارات وأحداث مما عده الكاتب طرائف( لعلها كذلك إن كانت سردا شفهيا!)، واصلاً إلى قوله (كما كان لـ(المثقفين) حكاياتهم وطرائفهم كانت لهم (خصوماتهم)! التي قد تكون أشد وطأة وعنفاً عن مثيلاتها في الفئات المجتمعية الأخرى، فقد عايشت (الثلوثيّتان): (ثلوثية الشرفية).. و(ثلوثية الصحافة) الكثير منها، إلا أنهما استطاعتا أن تصفيا بعضها، ويعود طرفاها إلى سابق عهدهما من الأخوة والمحبة.من الخصومات التي استطاعت الثلوثية نزع فتيلها، قال المناع: (كانت أولاهما بين نجمين كبيرين من نجوم المنطقة، هما: صادق دحلان وكيل إمارة منطقة مكة المكرمة، والدكتور محمد سعيد فارسي أمين مدينة جدة الفنان الطموح، الذي يحلم بأن تصبح مدينة جدة أجمل مدن العالم وأكبرها وليس فقط عروساً لمدن البحر الأحمر، ولذلك فقد كان يعتمد الكثير من المخططات التي تأتيه من ملاكها ومن المكاتب العقارية المعتمدة، وهدفه تشجيع تملك تلك الأراضي لمواطني المدينة). ويصف الكتاب عبد الله باجبير بأنه كان صحفيا متواضعا، وهو يورد خصومة له، موضحا: (نشب خلاف ثالث بين الصحفي الأستاذ عبدالله باجبير الكاتب اليومي بصحيفة (الشرق الأوسط)، وعضو ثلوثيتي (الشرفية) و(الصحافة): الصامت في أغلب الأحيان، والمهندس عبدالله المعلمي (ثالث أمناء) مدينة جدة، حول أداء الأمانة (المتواضع)، والصعوبات التي يواجهها أبناء المدينة عند مراجعتهم لـ(الأمانة)، وقد تمكنت (ثلوثية الصحافة) من حل الخلاف والوصول إلى نقطة تراض بين طرفي (الخلاف): المعلمي من جانب والباجبير من الجانب الآخر، إلا أن (الباجبير)، الذي بدأ مع مجلة – أو صحيفة - (الرائد) صحفياً متواضعاً في الستينيات الميلادية، ظهر فجأة على الصفحة الأخيرة من صحيفة (الشرق الأوسط) ثم صحيفة (الاقتصادية) كاتبا يوميا، ثم اختفى بعد سنوات من ذلك الحضور اليومي. ثم خرج من عالم الكتابة ومضمارها!!).