ومُوصِّل هذه الأمنية هي رسولة، ذات شَعرٍ طويل حتى الينابيع. وبما أنَّ الأمنيةَ بئرٌ يُمتح منه، أو هي ينبوع بلا ملامح حسّية، فإنَّ التوسلَ بربّات الشعرِ، سيكون عن طريقِ الحس، الذي سيأخذ شكلَ سؤالٍ: ما علاقة الشَعرِ بالرسالة؟ وما نوع الرسالة؟ فإن كانت رسالة إلهية، بحكم مفهوم الينابيع التي بلا ملامح حسية، فكأننا أمام جمالٍ ملموس للرسالة، بعد أن كانت معبأة بالقبح قتلًا وعنفًا. والعنف -هنا- يذكرنا بالعنف الذي حصل لبوئثيوس.
ويؤكد ذلك رمزية تحويل صاحب الرسالة من رجلٍ إلى امرأة. وكأنَّ أنسي الحاج أراد أن يتخلّص من عنفٍ اجتماعي -كبوئثيوس- بالشعر، ليكون عزاءً. ومحاولة جمعه للشعراء في نفسِه، يدلنا على التبري من معرة العنف حين يكون باسم الشعر، فهل ثمة تغير في نوعِ الوديعة قبل الاحتضار وأثناءه؟ يقول أنسي الحاج في مطلع قصيدته: «هذه قصة الوجه الآخر من التكوين/وجدتها وعيناي مغمضتان/فالطريق حبيبتي/قادم من انتظارها لي/قادم من رجوعي إليها».
وكأنَّ القصةَ انطبعت في ذهنه، في لحظة الاحتضار، حين كُشفِ عنه الغطاء، فبصره حديد من لقاء ربات الشعر. فهل الذي جعله يتوسل ربات الشعر، هو تغير نوع الوديعة؟ أم أنَّ لحظة الموت هي بذاتها تخلط وتغير؟
لهذا قال بعدها مباشرة: «اسمعوا/لا تغلقوا الأبواب». إنه يُحدِّث -بلحظة تغيّر- جلساء الاحتضار، وكأنَّ النصَّ يخبرنا عن حدث مَخفي، وهو أنَّ الجلساءَ لم يسمعوا منه لغلبة الوجع عليه، كرواية ابنِ الخطاب «حسبنا كتاب الله».
إلا أنه هنا أكمل بخلاف رواية عمر، إذ لم يقل أنسي الحاج: «قوموا عني».
ولعلَّ ما يُوضّح سبب إكماله هو السؤال المتفرع من العنوان وهو:
ما الفرق بين الرسالة والنبوة؟ لماذا لم يقل: «النبية بشَعرها الطويل حتى الينابيع؟»
من حيث اللغة، النبأ هو الخبر، لكن يبدو أنه تحول إلى أن يكون بمعنى الخبر الجليل، أو المختلف عن السياقات المتداولة.
وتحديدًا بعد أن خُصِّصَت بها النبوة، من أن يكون نبأ أُخِذَ من إلهٍ، كما جاء في القرآن: (عمّ يتساءلون/عن النبأ العظيم). وكأنَّ النبيَ يخبر بخبرٍ عظيم، مختلف عن سياقات الحياة المتداولة، دون أن يكون مُطالبًا بإخبارِ غيره. فإذا طُولِبَ أصبحَ رسولًا أيضًا. وبهذا المعنى يكون أنسي الحاج، اختار الرسولة؛ ليلغي مفهوم النُبوّة، ويجعلها رسالةً فحسب، أي ليس ثمة خبر خارج وعينا.
ونوعية الرسالة هي الشَعر، والشَعر يلتقي بالجذر اللغوي مع الشِعر؛ وسيكون الشَعر هنا، المعادل الموضوعي لمعنى الشِعر، وستكون الحبيبة صاحبة الشَعر، هي الطريق نحو ربّات الشِعر، لا بصفتها حاملة لنبأ، بل بصفةِ شَعرها شِعرا. وأقولُ هذا؛ لأنه أكملَ وصيته، أي أنه ليس في حضرة نُبوّة، بل عزاءً بالشِعر/الحُبّ، من عنف المجتمع عامةً، والشِعري خاصة، لهذا نجد السماع عند أنسي الحاج، في قوله:
«اسمعوا/لا تغلقوا الأبواب» لم يكن عن طريقِ نبأ من إلهٍ بصورةٍ مباشرة، بل عن طريق (الموج)، إذ قال: «الموج يحمل الرسالة إلى الريح/والريح إلى الشجر/والشجر إلى الدفاتر» لكن مَن الذي أخبر الموج؟
لا أحد؛ بحسب القصيدة/الوصية. فهل الموج دلالة على منعرجات/متلاطمات التكوين الأولي للإنسان؟؛ إذ الموج يحمل رسالة إلى الريح، وليس يخبرها.
والريح تحملها إلى الشجر، والشجر يتحول إلى أخشاب تُبرى، فتكون أقلاما، تَكتبُ في الدفاترِ قصةَ الوجه الآخر من التكوين، التي نقلها الموج. فنحن -هنا- لسنا أمام عنعنة روائية، بل عنعنة حاملٍ عن حاملٍ، ومن ثمَّ هي الوجه الآخر من التكوين. ولفظة الوجه الآخر، لها دلالة التغير في لحظة الاحتضار، فقد أوصى الجالسون بثني ركبهم عند العاشق، أو وصَّى ثنائية المجتمع، بالتوحّد بالعاشق، والعاشق هنا هو المتحدث -نفسه- في لحظة الاحتضار؛ حين قال: «يا شيوخ الديار وفتيان الحارات/اجلسوا الليلة أمام العاشق».
والليلة هي ليلة الاحتضار، لهذا قال بعدها: «يا حبيبتي صلِّي لي كي أُحسِن دعوتهم إلى العيد». وكأنَّه يريد أن يكونَ أسرع من الموت/عنف الناس/الشعراء:
«اقرئيني قبل أن يعرفوني فأصل باكرا إلى القلب» لكنَّ لحظة الاحتضار توقعه في فخ التناقض حين يخاطب المسرعين بالتريث، فقط هذه الليلة، وكأن ثمة إسراعا روحيا، وإسراعا ماديا، وهذا من دلالات التحول والتغير في مفهوم الوديعة عند أنسي الحاج، وهو يمثل خطابَ ربات الشعر، حين وسّط بينهن حبيبتَه/الرسولة بشَعرها الطويل إلى الينابيع التي قال عنها:
«هذه رؤياكِ بلغتي المنحنية/هذا كنزكِ بلصوص يدي/هذا بحركِ من مركبي الصغير فانظري إلى/بحرك من مركبي وعيناكِ عليَّ شراع/أنتِ التي تُغير الحياة بجهل صاعق/أنتِ المضمونة/تُغيرين الحياة دون انتباه/بِعُري النقاء الذي لا تستسلم الأسرار/إلا لشهوته/هي قصتك/قصة الوجه الآخر من التكوين».
تستمر القصيدة/الوصية؛ لنرى خطابَ العشق يتجلى بقول: «أيها الـ..... الذي قال لامرأة: يا أمي/احفظ حبيبتي».
فمَن التي قال لها يا أمي؟! هل هي آية شيطانية كآيةِ الغرانيق العُلى، في لحظة احتضار أنسي الحاج؟
حيث قال: «أنا هو الشيطان أقدم نفسي:/غلبتني الرقة، حبيبتي أحبتني.../حبيبتي أطلعتْني من عمقِ البحر فشاهدت الكونَ/منذ البداية». لكنَّ السؤال:
إذا كانت آية الغرانيق، تستدعي أعداء صاحب الدعوة، ليسجدوا راضين، فمَن كانَ يدعو أنسي الحاج؟
خُتِمت القصيدة/الوصية بقول: «وتعالوا/من أعماق اليأس ومشارف الصقيع/من أطلال الأمنية.../تعالوا/ كللوا رؤوسكم بذهب الدخول/وأحرقوا وراءكم/أحرقوا وراءكم/أحرقوا العالم بشمس العودة» الأمنية التي انطلق منها الحاج/القاصد بجعل جميع الشعراء فيه، أصبحت طللًا، يعود منه الشعراء ليكونوا واحدا يسجدُ راضيا.
وأخيرا: أكرر ما قلتُه وهو أنَّ ما يَهمّ هو تأسيس معنىً للتغير -في ثلاثية الطرق- يُعبِّر عن تخلخل البُنية في المفاهيم التي يُدّعى أنها صلبة.