تتوارد الأفكار كثيراً حين تتبادر المشكلات وتطفو على محيا الناظر والمتأمل جهد السنين التي أرهقت أرواحنا في ملمات هذه الدنيا المليئة بالاضطرابات، وتتكالب الأشياء والأماكن بكل ما فيها من ذكريات على هذه الروح الإنسانية، فتطلب المدد كي تتقوى على رؤية الأشياء بوضوح تام، فتسلك الطرق السهلة الميسرة، وتتجنب تلك المسارات الوعرة التي تضع في رؤيتها للأشياء ضبابية عائمة لا تكاد تجزم بشيء، فهي غير متيقنة مما تعمله، ولا مترسخة في اتخاذ قراراتها الآنية وذات الرؤية المستقبلية.

إلا أن نفساً وروحاً إنسانية (وهنا قصدت تنكير النفس لتفيد العموم وهذا من ركائز هذه اللغة المقدسة)، هي التي تتخذ من خطواتها طريقاً سهلاً ومساراً صحيحاً عند رؤيتها في اتخاذ قراراتها المصيرية، وخصوصا التي تتعلق بالأمر الجازم المنبثق من عمق الملازمة للنظر والتأمل في مقاصد التشريع وتكييف النصوص وفهم الواقع المعاصر.

إلا أن ذلك لا يكفي كي ترتقي النفس الإنسانية إلى مستويات التطهر من متعلقات ما يشوب النفس الإنسانية من الشر الذي يجري متساوقاً مع هذه الروح الآدمية التي تترامى عليها الشهوات والشبهات من كل جانب وفي كل زمان.


فهذه النفس الإنسانية التي خلقها وأبدع صنعها مبدع السماوات والأرض لم يتركها هملاً "أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ عَبَثٗا وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡحَقُّۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡكَرِيمِ".

فقد نصب الخالق علامات وأمارات لهذه الروح كي تشق طريقها للهداية، ومن ذلك إرسال الرسل "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً"، وإنزال الكتب السماوية وإقامة الحجج والبراهين على وجود هذا الخالق، وأنه لا يوجد إله مستحق للعبودية إلا هو سبحانه وتعالى.

بيد أن إرسال الرسل وإنزال الكتب وتلك البراهين لا تكون حجة على هذه الروح الإنسانية إلا بشرط أن تفهم وتعي وتدرك بكل شعورها وإحساسها أن النبي والرسول قد تم إرساله من خالقه وأنه قد أوحي إليه من ربه، وأن يُعلم ويخبر هذه الروح الإنسانية تعاليم ومبادئ وتشريعات محددة، وأن تتوقف هذه الروح الإنسانية من ظلم نفسها، ومن ظلم العباد، وأن تتوجه في كل أمرها إلى خالقها ومصورها ومنشأها من العدم.

وهذا الإدراك والوعي هو ما اصطلح عليه علماء العقائد بفهم الحجة الشرعية وإدراكها إدراكاً تاماً نافياً لأي جهالة تشوش وتغبش على عقل هذه الروح الإنسانية، وهذا من العدل الآلهي الذي أتصف به الخالق.

وهذه مسألة شائكة قد مورس عليها كثير من التغبيش والضبابية حتى أصبحت في آراء الدارسين لها بين تناقضات الأقوال وتضارب الآراء، فيكاد المستقرئ لها يُمثل لها بأنها مثال صارخ على مسألة الجمع بين النقيضين ورفعهما وهي من الأمور المستحيلة عند أهل المنطق بل عند البشرية جمعاء، وهي قاعدة يقينية مفيدة جداً وخصوصاً في زماننا المعاصر الذي يحاول أن يجمع بين المتناقضات والمستحيلات مثل الجمع بين الإلحاد والإيمان، والشر والخير في آن واحد.

وكانت هذه مسألة فهم الحجة وبلوغها سبباً أصيلاً في الإقدام على التكفير بالجملة، بل كانت الأساس المتين لتغول جماعات الجهاد والكفاح المسلح المتطرفة في دماء البشر بالقتل والتدمير والتفجير.

ولقد عايشنا وعاصرنا أصحاب هذا الفكر الذين يتخذون من هذه المسألة معولاً وسلاحاً لتكفير أفراد الجيش والشرطة ولكل من يعمل لدى الجهات الحكومية، وذلك بسبب الخلل العميق في فهم مسألة بلوغ الحجة الشرعية التي تكون أساساً في جعل المسلم مكلفاً ومسئولاً عما يصدر عنه من أقوال واعتقادات وأفعال.

وهذه المسألة لها تعلقات بالمنهجية في فهم الخلاف وتصويره وكيفية التعامل معه، فقد كان من آثارها أن أصبح التنطع والشدة في إصدار الأحكام العملية الفقهية سمة طاعية وظاهرة للمجتمع، فما أن يُذكر قول من أقوال الفقهاء الذي فيه تيسير للمسائل والأحكام إلا وتجد من يصم ذلك القول بمجانبة الشريعة ومخالفة النصوص والقواعد، علماً أن تلك المسائل الفقهية تتجاذبها الأدلة والتأويلات والفهوم، بل إن الخلاف كان أصلاً من أصول العمل عند صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ الميل إلى فرض الشدة وحصر عباد الله وأفراد المجتمع بقول أحادي النظرة قد أنتج رؤية لا ترى الشرع إلا من خلال مسارها الضيق، وهذا لعمر الله قد حجر واسعاً وضيق آفاقاً في عصر العولمة والاختلافات الشديدة لم يكن يوجد في عصر اللاتقنية فهذا من عجائب زماننا.

فهل نعي ما كنا فيه من خطر لإغلاق الطرق والمسارات على عقول أفراد المجتمع!!!

و"إن هذه المسألة وإن كانت جزئية فهي من القواعد الكبار التي ينبي عليها من الفروع الفقهية ما لا يحصى، وقد اضطربت فيها المذاهب وتشعبت الآراء، وتباينت المطالب".

يقول ابن تيمية "وليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة".

لذا فإن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية فليس كل من جهل شيئا من الدين يتم تكفيره.

ولهذا لما استحل طائفة من الصحابة والتابعين كقدامة بن مظعون وأصحابه شرب الخمر وظنوا أنها تباح لمن عمل صالحا على ما فهموه من آية المائدة، اتفق علماء الصحابة على عدم تكفيرهم بالاستحلال ابتداء لأجل الشبهة التي عرضت لهم حتى يتبين لهم الحق، فما لم يتم وضع فهم يقيني يتوافق مع مقاصد التشريع لأصول مسائل التكفير والتطرف والفكر الجهادي المدمر، فإن التدوير الفكري لجماعة القاعدة وداعش والجهاد سوف يتم تحويره ونشره بثوب جديد فتتلقفه بكل حماسة الشبيبة التي لم تنضج بعدُ فتكون وبالاً وحسرةً على أهلها ومجتمعها.