على أن الاختلاف الواسع بين الناس في فهم الشعر وتحديد معناه ومذاهبه الفنية، لم يمنع الاتفاق التام بين البشر على أن الشعر هو ضرورة للناس جميعا، والشاعر الشعبي في بلادنا معروف، وقد كان لهذا الشاعر مكانة مهمة في الريف وسائر البيئات الشعبية، وكان هذا الشاعر قبل ظهور الراديو والتليفزيون، هو البديل الوحيد لهذه الوسائل الحديثة، فكان يروى للناس الملاحم الشعبية الشهيرة مثل «أبوزيد الهلالي» و«عنترة» وغيرهما، وكان يلجأ إلى الحيل الفنية المعروفة في المسلسلات والتليفزيون، فيتوقف كل ليلة عند «لحظة مثيرة»، حتى يجذب اهتمام الجمهور، فيأتي في الليلة التالية وكله شـوق وفـضـول، لمعرفـة مـا جـرى وما صارت إليه الأحداث والصراعات بين الرجال والنساء، وكان الشاعر يروى ويغني معا، ففي الجزء المملوء بالحوادث والتفاصيل، تكون الرواية هي الوسيلة، وفي الجزء الذي ترتفع فيه المشاعر إلى درجة الغليان يكون الغناء هو الوسيلة، والغناء غالبا ما يكون تعليقا على موقف أو حادث أو لحظة فرح أو لحظة حزن وشجن.
هذه الجماهير الشعبية التي كانت تستمع إلى «الشـاعـر» وتـهـواه وتـتـأثر به، لم تكن جماهير متعلمة، ولم تكن تعيش حياة سعيدة مملوءة بالرخاء، بل كانت على الأغلب جماهير تشقى في حياتها من أجل لقمة العيش، ومع ذلك فلم تمنعهـا صـعـوبة حياتها وقلة حظها من الرزق، في أن يكون لـهـا شـاعـرها الذي يطربـهـا ويغنى من أجـلـهـا، فالشعر في حياة البشر ضرورة. وهذا هو ما يتفق عليه الجميع، وإن اختلفوا بعد ذلك في تحديد معنى الشـعـر، وتـحـديـد مـذاهـبـه وألوانه المختلفة، وكثيرون من كبار شعراء العالم يحاولون تقديم معنى للشعر كما يفهمونه، وهم يكتبون قصائدهم بوحي هذا المعنى، وحـتى لو لم يحدثنا الشاعر عن معنى الشعر كما يفهمه، فإن قصائد الشاعر نفسها تنطوي على هذا المعنى، ويمكن أن نفهم من هذه القصائد «معنى الشـعـر» كـمـا يـتـصـوره الشاعر، دون حاجة إلى أن نسمع منه تعريفه الخاص للشعر.
يتبع.
1998*
* ناقد مصري «1934- 2008»