المواطنة سلوك فطري ومشاعر إنسانية وعمل إيجابي وانتماء صادق للوطن ومقدراته، فالمواطنة لا تغرس قيمها عنوة ولا تُلقن مبادئها تلقيناً أجوفاً، لتُبنى قواعدها أو لنعزز ولاءها، المواطنة بذرة فطرية موجودة عند كل إنسان سوي، فهي نواة طبيعية تزدهر أوراقها وتنمو بخيرها وتطرح ثمرها عند احتضانها ورعايتها وهي بذرة، لتلقي ما في جعبتها من غراس بروح وطنية تسهم في البناء والعطاء.

تحرص كثير من دول العالم المتقدم على أن تعزز قيم المواطنة وتقوي جذورها عند مواطنيها، عبر تعريفهم بتفاصيل محتوى وطنهم وتغذية عقولهم بمكنوناته المختلفة، وشحذ عواطفهم بالارتباط به والتعلق بترابه وأرضه وسمائه، ويشمل ذلك تزويدهم بالمعرفة المتكاملة والعميقة لجميع مقدراته وثرواته وقيمه خلال مناهج تربوية مدروسة وموجهة لتخدم تطلعات الوطن وأهدافه. ويشارك الإعلام عبر وسائطه المختلفة بضخ مزيد من المعرفة والتوضيح المرئي بتغطيته لمعالم الوطن ومكنوناته عبر قوالب متنوعة وبرامج هادفة، تقدم ما يحتويه الوطن من كنوز وما يزخر به من مدخرات بتفاصيلها وبتوزيعها على أرضه وتحت سمائه، منها التراثي والتاريخي ومنها الطبيعي والجغرافي، ومنها ما يتعلق بقيمه وعاداته وتقاليده وموارده الاقتصادية والبشرية، وغير ذلك من المحتوى الذي يُعمق معرفة المواطن بوطنه ويزيد من اعتزازه وافتخاره بوطن يحتويه ويحميه ويسعى لازدهاره ورقيه وتقدمه.

تعزيز المواطنة وتوجيهها نحو العطاء الإيجابي تربوياً واجتماعياً ووطنياً، لا يتحقق بوجود مقرر خاص بذلك في مرحلة دراسية، أو بمحتوى يتكرر أسلوبه ومضمونه بمستويات مختلفة لمراحل متعددة؛ لأن تعزيز المواطنة وتعميق جذورها، يحتاج لمزيد من المعرفة عن الوطن بتفاصيله، بما يعني توسيع أفق المواطن «الطالب» حول وطنه، والذي يقتضي تنويع الممارسات والنشاطات وأساليب التعليم ذات الصلة بالمعرفة الوطنية لتحفيز المواطنة في جميع تفاصيلها المستهدفة ومجالاتها المتنوعة.


عندما يتغذى الطالب/ة بكم كبير ومدروس من المعرفة الحية عن وطنه ومقدراته، فإن ذلك يتطلب انتهاج وسائل متطورة وفاعلة تربوياً في التدريس والتقييم، وتعتمد على أسلوب التحفيز والدفع نحو البحث وجمع المعلومات والتحدث عنها واستعراضها ومناقشتها باستخدام الطرق التقنية المعاصرة، وعبر الرحلات التعليمية المكثفة والمنظمة لكنوز الوطن وممتلكاته في المناطق المختلفة؛ لأن ذلك يغرس المعرفة الوطنية بقوة الملامسة للشواهد ومعاينتها، فيزيد من متانة الانتماء الوطني ويقوي عُرى الارتباط بالوطن ومقدراته، فيكون المواطن سفيراً ناجحاً لوطنه ومرآة له بما يليق به وبما تستحق مكانته، فالمعرفة العميقة التي غرست وملامسة الحقائق واقعاً، تُسهمان في بناء فكر ناضج وتوقد عاطفة وانتماء صادق يخدم الوطن وتطلعاته.

كثير من شعوب العالم التي تصنف ضمن الدول المتطورة، تجد أن أفرادها بمختلف مراحلهم العمرية ومستوياتهم التعليمية يعرفون الكثير عن تفاصيل أوطانهم وطبيعة مواردهم ومقدراتهم، كما أنهم مُلمون بمناطقهم القريبة والبعيدة ومدركون لما بينها من اختلافات وما يربطها من علاقات تقوي متانة النسيج الاجتماعي وتعمق مستوى إدراكهم لمقدراتهم، رغم أنهم يجهلون الكثير عن الدول الأخرى خاصة البعيدة عنهم، أو تلك التي لا يربطهم بها تاريخ مشترك أو حضارات متقاربة، وعلى الرغم من أن ذلك لا يعتبر محموداً أو متميزاً في حد ذاته، خاصة مع تقدم الاتصال وتقارب الثقافات والمجتمعات عبر التقنيات المعاصرة، إلا أن معرفتهم العميقة لأوطانهم تدعو للانتباه والملاحظة والتقدير، مقارنة بجهل أبنائنا ومعرفتهم السطحية عن كنوز الوطن ومدخراته.

المقارنة لا تعني أن لديهم انتماء وولاء أكثر منا أو أنهم نجحوا في ترجمة مفهوم المواطنة لسلوك اجتماعي، ولكن لتوضح بأن للتعليم وطرقه المتبعة ومنهجه المنفذ دوراً رئيساً في توسيع مدارك الأجيال عن الوطن ومكوناته، تعزيز المواطنة يقتضي أن تكون المعلومات الوطنية والمعرفة بجميع أنواعها الاقتصادية والاجتماعية والجغرافية والتاريخية والعلمية، ضمن محتوى مناهجنا كمادة علمية، لتقدم كنماذج معرفية وكأمثلة نظرية وعملية تستحق الإلمام بها والاطلاع عليها والوقوف على مصداقيتها كشواهد قائمة.

لدينا المئات من الدراسات العلمية والأبحاث المفصلة في مختلف العلوم والمجالات عن المقدرات الوطنية وبيئتنا الطبيعية وامتدادنا الجغرافي وتراثنا التاريخي وتركيبتنا الاجتماعية وثرواتنا الاقتصادية المتنوعة، ومع ذلك تجد في كثير من المقررات في التعليم العالي بصفة واضحة، الاستناد إلى نماذج ودراسات وتطبيقات بعيدة عن معرفتنا الوطنية وعن بيئتنا الجغرافية، دون الإشارة لإنتاجنا العلمي أو تضمينه للمحتوى المعرفي.

السؤال لماذا لا يُحَدَّث المحتوى العلمي في مختلف مجالاته المعرفية، بما يستجد من الدراسات الوطنية والأبحاث العلمية التي تضيف لرصيدنا المعرفي عن الوطن، بل وتستحق الاستفادة من نتائجها في رفد المعرفة العلمية والمناهج المختلفة، بمحتواها الثري وتحليلاتها القيمة التي تدعم تعميق المعرفة الوطنية وتعزز قيم المواطنة والولاء بين الأجيال، خاصة ونحن نعيش في خضم غزو ثقافي وفكري يدعو للتحصين المعرفي والتأهب التربوي والانتباه الحصيف لعواقبه التي قد تؤدي للانسلاخ عن مجتمعنا الوطني والاغتراب الاجتماعي والانفصال عن النسيج الوطني بثوابته وقيمه المألوفة.