بعد سنوات من القلق والصراع وعدم الاستقرار، يبدو أن العراق بدأ يتماسك من خلال تقليص مستوى العنف بما يكفي للسماح بحياة شبه طبيعية. لكن تقريراً لمجموعة الأزمات الدولية (International Crisis Group) نشر في سبتمبر الماضي ذكر أن الدولة العراقية في نفس الوقت سمحت بأن يصبح الفساد منتشرا بين مؤسساتها، مما أدى إلى تراجع مستوى الخدمات في المؤسسات العراقية. وقد فاقمت حكومة نوري المالكي المشكلة بسبب تدخلها في قضايا مكافحة الفساد مستغلة التحقيقات لتحقيق مكاسب سياسية وتخويف النقاد من تنظيم احتجاجات شعبية مماثلة للتي تجري في بعض الدول العربية. ونتيجة لذلك تضاءلت مصداقية الحكومة في مكافحة الفساد.
عانت الدولة العراقية والمواطنون من انتشار أحداث العنف بعد الغزو الأميركي عام 2003 للعراق. في بيئة انتشرت فيها أعمال الخطف والاغتيالات والانفجارات، تأثرت الخدمات العامة بدرجة كبيرة، حيث لم يعُد المسؤولون يجرؤون على الذهاب إلى أعمالهم ووجد القضاة وأعضاء البرلمان أنفسهم قد أصبحوا أهدافاً. الجهات الرقابية، التي كان يفترض أن تكون أقل عرضة للمخاطر بسبب عدم وجود تواصل مباشر بينها وبين المواطن، أجبرت على التراجع عن عملياتها وتركت مؤسسات الدولة بدون صمام أمان ضد الإساءات والفساد. نتيجة لذلك تراجعت مخرجات الدولة بشكل كبير على مدى سنوات، حتى مع ارتفاع الميزانية السنوية بسبب ارتفاع أسعار النفط. وأدى شلل الدولة إلى انتشار العناصر الإجرامية والمصالح الشخصية في جميع أركان الدولة.
بحلول عام 2009، سمحت مجموعة من العوامل للدولة بإعادة تأكيد نفسها. كان زيادة عدد القوات الأميركية (2007-2009) عاملاً هاماً في تحسين مستوى الأمن، لكن فيما يخص المؤسسات، عززت قوى الأمن العراقية التي أعيد بناؤها من مستوى الأمن والأمان بحيث تمكن المسؤولون من العودة إلى أعمالهم دون حماية أو مساعدة القوات الأميركية. يتلقى القضاة حالياً الحماية من قوى وزارة الداخلية العراقية، ويعتمد البرلمان العراقي بشكل كلي على الشرطة المحلية والشركات الخاصة لضمان أمنه، كما استأنفت الدولة معظم مهامها.
ورغم هذا المناخ الأفضل، لا تزال الخدمات العامة تعاني من عيوب حادة، وبشكل خاص انتشار الفساد في مؤسسات الدولة خلال سنوات غياب الأمن التي استمرت حتى عام 2008. وأحد أهم الأسباب التي أوصلت الدولة إلى هذا الوضع المؤسف هو فشل الإطار الرقابي للدولة. فدستور 2005 والإطار القانوني الحالي يتطلب أن تقوم عدة مؤسسات –الهيئة العليا للرقابة، ولجنة النزاهة، والمفتشون العامون، والبرلمان، والمحاكم- بدور رقابي على عمليات الدولة. لكن أياً من هذه المؤسسات لم تستطع أن تؤكِّد وجودها أمام تدخل الحكومة والاستغلال والإطار القانوني الخاطئ والتهديد المستمر بالعنف. هذه العوامل تسببت باستقالة عدد من كبار المسؤولين، بما في ذلك رئيس لجنة النزاهة في 9 سبتمبر 2011.
تأسس الإطار الرقابي الحالي من قبل سلطة الائتلاف المؤقتة الأميركية في 2004، وقد طبقت هذه اللجنة عدداً من الإصلاحات الخاطئة منذ البداية، مثل تجريد الهيئة العليا للرقابة من سلطات رقابية هامة. وقد حولت سلطة الائتلاف المؤقت تلك الهيئة إلى لجنة النزاهة التي تم تأسيسها عام 2004 لتمارس أعمال مكافحة الفساد. لكن هذه اللجنة لا تستطيع حتى الآن أن تمارس صلاحياتها باستقلالية نتيجة عوامل عدة، ولذلك فهي تعتمد على المفتشين العامين، وهي مؤسسة أخرى أسستها سلطة الائتلاف المؤقت لها مراقبون ومحققون في جميع وزارات ومؤسسات الدولة. ولكن بسبب قصور الإطار القانوني والإداري، لا تزال تلك المؤسسة غير قادرة على تنظيم عملها.
ربما يكون البرلمان العراقي أقل المؤسسات الرقابية فاعلية. فهو يعمل بشكل طائفي وأنظمته الداخلية بطيئة وناقصة لدرجة أنه لم يستطع تطبيق قانون طال انتظاره يهدف لإصلاح الخلل الموجود في مؤسسات الدولة منذ 2003. كما أن البرلمان، بسبب التوازنات السياسية الحساسة فيه، لم يتمكن من القيام بأعمال رقابية على الحكومة خوفاً من الإخلال بالتحالفات السياسية القائمة.
أما السلطة القضائية فهي عرضة للضغوط السياسية بشكل كبير. وقد أصدرت أحكاماً في عدد من القضايا العامة بطريقة أعطت لحكومة المالكي حُرية واسعة لممارسة الحُكم كما تشاء.
كل هذا أدى إلى نتائج ملموسة: تم اختلاس مليارات الدولارات من أموال الدولة؛ الأحزاب تتعامل مع الوزارات وكأنها حسابات مصرفية خاصة؛ وانتعشت المحسوبية والرشوة والاختلاس. نتيجة لذلك تراجع مستوى المعيشة في البلاد بشكل عام، وتأثرت قطاعات الرعاية الصحية والتعليم والكهرباء، كما تراجعت الظروف البيئية بشكل ملحوظ.
التوصيات
تقدَّم تقرير مجموعة الأزمات الدولية بالتوصيات التالية للحكومة العراقية والبرلمان:
1-تقوية إطار مكافحة الفساد بحيث يسمح بتعاون أكبر وأكثر فاعلية بين مؤسسات الدولة المختلفة التي لها علاقة بمكافحة الفساد.
2-إصدار قوانين حول الأحزاب السياسية تفرض على الأحزاب الشفافية المالية ونشر حسابات مالية سنوية مفصلة، بما في ذلك مصادر الدخل والإنفاق.
3-إصلاح النظام الداخلي للبرلمان.
4-تبسيط العملية القانونية من خلال توضيح وتعزيز علاقة العمل بين المؤسسات التي لها علاقة بإعداد قوانين جديدة؛ توضيح دور كل مؤسسة؛ ووضع خطوط واضحة للتواصل بين هذه المؤسسات.
5-إصلاح الوظيفة الرقابية للبرلمان للتركيز على تطبيق السياسة من خلال مساءلة كبار المسؤولين الإداريين والتكنوقراط بدلاً من السياسيين.
6-إصدار قانون يمنع رئيس المجلس القضائي الأعلى من شغل منصب رئيس القضاة، وحماية استقلالية المحكمة العليا من خلال منع أي تدخلات سياسية.
كما قدَّم التقرير التوصيات التالية للولايات المتحدة والمجتمع الدولي:
7-التعبير العلني عن عدم الرضا عن فشل الحكومة والبرلمان العراقي في تطبيق الإصلاحات.
8-تقديم دعم مباشر وفوري للبرلمان.
9-دعم جهود إصلاح إطار مكافحة الفساد.